لو نجحت الحكومة في إعادة هيكلة اتحاد الإذاعة والتلفزيون بموازنة إيراداته بمصروفاته ،فسيكون الأمر بداية حقيقة وفعالة للإصلاح الإداري يمتد بعد ذلك لكل مرافق الدولة. ماسبيرو ، هذا الجهاز العريق، يضم نحو 38 ألف موظف أغلبهم لا يعملون، ومعظمهم لم يتلق تدريبات مهنية تطور من أدائهم وبالتالي كان التراجع حتميا ،وديون المبنى بموظفيه تجاوزت 40 مليار جنيه ، وكل دخله لا يغطي سوى 20 ٪ من اجور العاملين ..والباقي تتحمله وزارة المالية. وزير التخطيط يقول إن عدد العاملين بالدولة بلغ 6.5 مليون موظف ، وان كلهم أقارب، في اشارة إلى تفشي الواسطة والمحسوبية في تعيينات الحكومة .. وهذه كلها أمور مفروغ منها ويعرفها الناس. اما الذي يحتار فيه الجميع فهي الطريقة التي يمكن ان يتم بها تقليص عدد العاملين بالدولة الى الحدود المناسبة أي التخلص من مليوني موظف على الأقل كمرحلة اولى حتى يصبح الجهاز الإداري اكثر لياقة .. وكفاءة. قضية تضخم العمالة الحكومية تعود الى الستينيات حينما كان يطلق عليها البطالة المقنعة ،ومنذ بداية التسعينيات، عندما وقعنا اتفاقا إصلاحيا مع صندوق النقد الدولي، جرت محاولات عديدة للتخلص من العمالة الفائضة عن الحاجة بفتح الباب امام المعاش المبكر وانشاء الصندوق الاجتماعي للتنمية لمكافحة البطالة وجذب الموظفين « طواعية « للاشتغال بالمشروعات الحرة الصغيرة .. والأهم فقد كان التعيين في أجهزة الدولة مقيدا طيلة هذه السنوات ، لكن الوزير اخبرنا انه بعد ثورة يناير اضطرت الدولة لتعيين 800 ألف موظف لأسباب اجتماعية . هذه المحاولات باءت بالفشل لأسباب اجتماعية، وكلنا يعرف ماجرى لأصحاب المعاش المبكر الذين أنفقوا مكافآت نهاية الخدمة في فترة قياسية وعادوا للمطالبة بتدبير عمل لهم من الدولة، أما الصندوق الاجتماعي فبرغم كل جهوده إلا أن قطاع المشروعات الصغيرة يظل واحدا من أضعف حلقات الاقتصاد المصري رغم محاولات تنميتها لما يربو على 25 عاما . سوق الوظائف في مصر لم يعد قضية اقتصادية فقط ولكنه سوق يعكس مختلف الأمراض التي يعاني منها المجتمع، وفي مقدمتها مشكلات التعليم والتدريب وعادات التواكل والبحث عن أجور بدون عمل «حقيقي» وغيرها من الأمراض التي شبعنا من الحديث عنها لسنوات طويلة. ولو قام الجهاز المركزي للتنظيم والادارة بإعداد دراسة علمية عن طالبي الوظائف الحكومية وتلك المرتبطة بالدولة سوف يتيسر له ولنا توثيق حقائق نحن نعلمها بالخبرة، فمن النادر جدا ان نجد بين المتقدمين للوظائف الحكومية الشباب المؤهل الحاصل على تعليم جيد او الذي « تعب على نفسه « بتقوية مهاراته بدورات تدريبية في مجال تخصصه واللغات والكمبيوتر وغيرها لأن هؤلاء توفرلهم أسواق الوظائف الخاصة احوال العمل المناسبة والأجور التي ترضيهم ، كما تتكفل الشركات «المحترمة» بتطوير أدائهم الوظيفي بتوفير دورات تدريبية تضمن له أداء افضل وفي نفس الوقت ترفع سعره في السوق مما يفتح له مجالات عمل اضافية ووظائف يختار من بينها. يحدث هذا في كل المجالات بدءا من وظائف الطب والهندسة بأنواعها مرورا بأنشطة المحاسبة والتسويق والمبيعات ووصولا إلى وظائف البنوك وتلك المرتبطة بالاقتصاد الجديد على اتساعها. على الأجل الطويل فإن إصلاح التعليم وغرس قيم العمل والالتزام بين الشباب فضلا عن محاربة عادات التواكل والكسل سوف تؤدي بالضرورة الى تحسين فرص التوظف للداخلين الى سوق العمل، غير انه على المدى القصير لا بد من البحث عن مبادرات جديدة لتوفير فرص تدريب وليكن بعضها مرتبط بوعود بالتعيين في عديد من المجالات التي تعاني فيها الشركات من نقص عدد المؤهلين لشغلها ، ولابد ان تمارس النقابات المهنية واتحاد العمال ومؤسسات الأعمال في تصميم وتمويل برامج تدريب متنوعة لتأهل الشباب على الوظائف والمهن التي يحتاجها السوق ، وبعد ذلك يبقى القانون هو الفيصل بين المنشآت والعاملين بها لمحاربة الظواهر السلبية مثل التواكل وكثرة الغياب وقلة الإنتاج وغيرها من الأمراض التي ربما تقل الى حد العدم لو وجد الشاب نفسه ضمن منظومة عمل ناجحة ويملك أسرار عمله ويقدر على إتمامه، والأهم يتقاضى الأجر المناسب .. وهنا تأتي مسئولية الشركات ومؤسسات الأعمال في إضفاء مزيد من المرونة على هيكل الأجور لتحفيز الشباب على العمل الإنتاجي، وحتى لا تصبح قيادة التوك توك او العمل في توصيل الطلبات للمنازل أفضل عائدا للشاب من العمل الشاق في المصانع كما يحدث الآن. تصريحات وزير التخطيط تشير إلى أن الدولة قررت اقتحام ملف العمالة المكتظة بالجهاز الإداري للدولة ،أوعش الدبابير، الذي استعصى على كل المحاولات السابقة للإصلاح ، ومع ذلك فإنه بدون اقتحام هذا الملف ومعالجته بأساليب مبتكرة لا يمكن الحديث عن إصلاح إداري ثم اقتصادي بشكل حقيقي وواقعي .