يبدو اننا لم نعد نفتقد الاخلاقيات فى الحياة العامة فحسب ولكن جدران العمل والبنوك تحديدا تشكو من اندثار اخلاقيات المهنة كذلك، وهو ما دعا البنك المركزى الامريكى الى الدعوة لإحيائها من جديد تجنبا للمشاكل التى تتحول بين يوم وليلة الى أزمة مالية عالمية. مع تركيز المنظمين الامريكيين على «الثقافة» المصرفية، تسعى بنوك وول ستريت الى تحديد المفاهيم المطلوب نشرها فى محاولة منها لفرض رقابة على سلوكيات موظفيها وتعزيز اخلاقيات المهنة لدى المصرفيين درءا للمشاكل المستقبلية. و»الثقافة» المصرفية هى الآن الموضوع الشائع فى الاوساط المالية، والشفرة التى يبحث المنظمون والبنوك عن كيفية التعامل معها، وكانت محور تقرير وول ستريت جورنال الذى اهتمت به وسائل الاعلام الغربية. فبعد سنوات من التسويات والغرامات وتكبد الخسائر وتسريح الموظفين، تحاول البنوك جاهدة وعلى نحو غير مسبوق من قبل مراقبة سلوكيات مصرفييها ومعتقداتهم تجنبا للممارسات التى كانت سببا فى الازمة العالمية. وهو أمر لا خيار لهم فيه بعدما حذر مسئولون كبار فى مجلس الاحتياطى الفيدرالى وهيئات حكومية أخرى، فى الاسابيع الأخيرة، من انتشار ممارسات سلبية فى البنوك على نحو مثير للقلق، مؤكدين أهمية اتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة المصرفيين عن كثب للحيلولة دون المجازفة «المجنونة» بأموال العملاء وغيرها من المخاطر غير المحسوبة. ومع ذلك يعترف المنظمون بأن «الثقافة» أمر يصعب قياسه، ومنهم توماس باكستر المستشار العام لبنك الاحتياطى الفيدرالى الذى قال انه رغم صعوبة قياس مسألة اخلاقيات المهنة لدى المصرفيين فإنها يمكن ان تحل مشاكل كثيرة. يذكر انه فى شهر اكتوبر كان رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى فى ولاية نيويورك وليام دودلى قد حذر مديرى البنوك بدراسة مسألة تقسيم البنوك الكبيرة اذا لم يفعلوا ما يلزم لاصلاح الاخطاء من جذورها. وفى خطابه ذكر دودلى مسألة «الثقافة المصرفية» 44 مرة. وقال ان الشغف بالمخاطر بين المصرفيين اصبح وكأنهم فى سباق فورميولا وان. وتكتسب القضية زخما جديدا هذه الايام مع ترقب الاسواق الاعلان عن نتائج اختبارات الاجهاد للبنوك الامريكية فى شهر مارس وهو الاختبار الذى يحدد البنوك التى تستطيع الصمود فى حالة حدوث أزمة جديدة على غرار الأزمة المالية العالمية دون الحاجة الى دعم حكومى وتحقيق عوائد على رأس المال. وكانت اختبارات الإجهاد السابقة قد ساعدت على استعادة الثقة فى القطاع المصرفى فى الولاياتالمتحدة بعد أن كاد ينهار فى عام 2008 . ويقول خبراء الصناعة إن العناصر النوعية، مثل كيفية قيام البنوك برصد المخاطر وقياسها، تستحوذ على جانب كبير من تقرير الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى لعام 2015 حول اختبارات الإجهاد للبنوك التى فرضها قانون «دود فرانك» للإصلاح المالى. ومن ثم تتسابق بنوك مثل جى بى مورجان تشيس وويلز فارجو على قياس مدى سلامة الحالة النفسية لموظفيها وتتبع مستويات الرضا الوظيفى وما اذا كانت لديهم رغبة فى تجاوز القواعد. وعلى سبيل المثال، رصدت شركة استشارية استعان بها بنك كبير، تكرار استخدام المصرفيين لكلمة «الحل» فى حواراتهم، فى إشارة الى رغبتهم فى اختراق القواعد وانتهاك السياسات . خلف الابواب المغلقة، يبدى المصرفيون قلقا بالغا من استخدام المنظمين لمسألة «الثقافة المصرفية» كأداة تعسفية لاصطياد الاخطاء، حتى ان البعض يقول تلك الثقافة هى «الارنب الجديد» الذى تطارده واشنطن. والثقافة المصرفية، لاسيما فى البنوك الكبيرة، تبدأ من طريقة تعامل موظف الشباك مع العملاء ولا تنتهى عند الكيفية التى يتخذ بها المتداولون الكبار قراراتهم والموازنة بين التزاماتهم تجاه عملائهم فى مقابل التزامهم تجاه البنك الذى يعملون لصالحه. والواقع أن وول ستريت توفر الآلية التى تشجع المصرفيين على المخاطرة. ودائما ما يتم تحفيز المتداولين ليكونوا أكثر جرأة وثقة، فعادة ما يترقى هؤلاء الى المناصب القيادية فى البنوك مكافأة لهم على جهودهم فى تعظيم مكاسب البنك. ومن ثم، تسعى البنوك الامريكية الكبيرة للوصول الى معيار قياس «الثقافة المصرفية» . وحاليا تعكف مراكز الدراسات على بحث المسألة ودراستها مع المصرفيين والمستشارين والمنظمين لوضع أدوات القياس التى يمكن تطبيقها فى انحاء الصناعة. ووفقا لبعض المصادر، تنفق البنوك عشرات الملايين من الدولارات على مثل هؤلاء المستشارين. ويستهدف الاكاديميون قياس ثقافة الشركات منذ عشرات السنين لكن لم يهتم أحد بالمسألة كاهتمام البنوك الآن. كان توماس كيرى مسئول مكتب مراقبة العملة قد أكد أهمية «الثقافة المصرفية» كأحد عناصر الادارة الرشيدة التى يمكن ان يكون لها تأثير كبير فى تقييم المكتب لمتانة البنوك التى تعتمد عادة على كفاية رأس المال، جودة الاصول، الادارة، الايرادات، السيولة، مدى الانكشاف على مخاطر الاسواق. وهناك أفكار عديدة حول هذا الموضوع، منها ما اقترحه خبراء الصناعة بوضع نظام كنظام رخصة القيادة، بمعنى سحب رخصة البنك لسوء التصرف. مقترحات أخرى مثل فرض غرامات على مديرى البنوك، منع المتداولين من مزاولة المهنة، وضع نظام للتعويضات، وجميعها تستهدف تعزيز الشعور بالالتزام والمسئولية لدى المصرفيين. الموضوع بدأ يثير اهتمام حملة الاسهم كذلك، ففى شهر ديسمبر الماضى أصدر بنك جى بى مورجان تشيس تقريرا عن ثقافة العمل فى البنك بناء على طلب أحد حملة الاسهم الذى دعا لمعرفة نقاط الضعف فى محيط العمل . وخلال العامين الماضيين بدأت بنوك امريكية مثل ويلز فارجو بإضافة بعض الاسئلة المتعلقة ب»الثقافة المصرفية» فى المسح السنوى الذى تجريه عن الرضا الوظيفى، حيث تبين لها ان الموظف الذى يقول انه سعيد وراض فى عمله يكون أكثر التزاما وتمسكا بالقواعد وباخلاقيات المهنة عن غيره من التعساء غير الراضين عن وظيفتهم والاكثر عرضة لاختراق القوانين . من ناحية أخرى يرى محللون ان البنوك، ومعها الاحتياطى الفيدرالي، تفتقر إلى الشفافية التامة حول نماذج المخاطر الرياضية التى تستخدمها فى اختبارات الاجهاد، وبالتالى لا يوجد فى الواقع ما يؤكد مدى دقة نتائجها. فالبنوك تعتقد ان اصولها المقومة بالوزن النسبى للمخاطر ستنخفض فى حالة سيناريو الازمة، لكنها لا توضح على اى اساس وضعت تقديراتها هذه. وسيناريوهات الإجهاد يجب ان تفترض أنها ستخسر أعمالها وسيقل دخلها وستضطر إلى شطب أصولها. البعض شكك ايضا فى صلاحية اختبارات الاجهاد التى يقوم بها الفيدرالى الامريكى على اعتبار ان علامة النجاح يسهل اجتيازها بمنتهى اليسر. على سبيل المثال، لابد للبنوك المشارِكة أن تحتفظ بنسبة من الرفع المالى تبلغ 4٪ على الأقل، أى 4 دولارات من رأس المال مقابل كل 100 دولار من الأصول. وتلك النسبة تعبر عن المبالغ التى لا يسمح للبنوك بالاقتراب منها، لكن ما تشير الأبحاث والتجربة اليه أنها أدنى بكثير مما تدعو الحاجة إليه فى وقت الازمة حتى يتمكن البنك من تجنب الوقوع فى المشاكل. هذا فضلا عن عدم إدراج الفيدرالى آثار شح الائتمان وانتشار العدوى فى اختبارات الإجهاد التى يفرضها على البنوك.