جاء قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الامريكي بإلزام البنوك الاجنبية في الولاياتالمتحدة بزيادة رأسمالها, ليثير جدلا واسعا في الاوساط المالية الغربية. البعض اعتبره من الاجراءات التمييزية واعلن عدم قبولها, مثل ميشيل بارنييه, المفوض الأوروبي لشئون السوق الداخلية, والبعض الاخر أدانها وأبدي استياءه الشديد منها مثل المانياوفرنسا. اما سويسرا فقد رأتها قصورا في ثقة امريكا في اصدقائها. القرار الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية علي انه تخفيف قواعد عمل البنوك الاجنبية الصغيرة في الولاياتالمتحدة تناولته بالتحليل مجلة الايكونومست تحت عنوان عزلة معيبة وانتقدته علي اساس انه يعزل البنوك الاجنبية ويقلص قدرتها التنافسية امام البنوك المحلية محذرة من اضراره المتوقعة, ليس علي اسواق رأس المال فحسب, وانما علي مسار التعاون الدولي في مجال تنظيم القطاع المصرفي. اما صحيفة نيويورك تايمز فرحبت بالقرار علي اعتبار انه يمنع تحايل البنوك الاجنبية علي القواعد التنظيمية في الولاياتالمتحدة التي تم إقرارها بعد الازمة المالية العالمية لتفادي فشل البنوك والاضطرار الي القيام بعمليات انقاذ مرة اخري. وقالت الصحيفة ان البنوك الاجنبية التي لها وجود قوي في وول ستريت لم تعد تستطع تجنب تلك القواعد. واضافت ان القرار يسد الثغرات التي كان يستغلها نصف البنوك الكبيرة في البلاد لأن مقراتها الرئيسية في الخارج. يقول تحليل الايكونومست: اقتصاديات المصرفية الدولية باتت واضحة بما فيه الكفاية. يتم جمع الاموال في البلدان التي تنخفض فيها تكلفتها ويتم إقراضها حيث يندر توافرها واذا تمت العملية بنجاح يكون بيزنسا مربح للمصرفيين ومفيدا للعالم من خلال توجيه المدخرات واستخدامها الاستخدام الامثل. ولكن علي مدي السنوات الخمس الماضية بدأت هذه الاقتصاديات تتمزق بسبب تجاوزات المصرفيين الباحثين عن الربح السريع وذلك في بداية الامر, ثم بسبب القواعد التنظيمية الصارمة الان. يوم18 فبراير, صوت مجلس الاحتياطي الفيدرالي( البنك المركزي الامريكي) علي قواعد جديدة تلزم البنوك الاجنبية بنفس معايير رأس المال والسيولة الملزمة بها البنوك الامريكية وذلك بدلا من السماح لها بالاعتماد علي احتياطيات البنوك الرئيسية( البنك الأم). القواعد الجديدة تلزم البنوك الاجنبية العاملة في السوق الأمريكية ايضا بالخضوع لاختبارات تحمل الضغوط المالية سنويا. وقد اعتبر مجلس الاحتياطي الفيدرالي قراره خطوة اساسية لعزل الولاياتالمتحدة عن العدوي المالية عبر الحدود المشتعلة منذ عام2008. وقال دان تارولو المحافظ الفيدرالي الذي اشرف علي صياغة القواعد الجديدة ان مجلس الاحتياطي الفيدرالي سمح في السابق للبنوك الاجنبية بالاعتماد علي البنوك الرئيسية لها من اجل الدعم اعتمادا علي ان الاخيرة خاضعة للرقابة الصارمة من قبل المنظمين في بلادها. ولكن علي مدي السنوات العشرين الماضية اصبحت البنوك الاجنبية في امريكا اكثر تركيزا واكثر ترابطا واعتمادا علي صفقات التمويل الكبيرة والان تصنيفها من بين اكبر متداولي الاوراق المالية في امريكا. وأضاف تارولو ان الازمة المالية كشفت إخفاقات هذا الوضع. فعندما جفت اسواق الائتمان كانت البنوك الاجنبية من بين البنوك الاكثر تضررا من الازمة وحصلت علي اكثر من نصف قروض الانقاذ التي قدمها مجلس الاحتياطي الفيدرالي في اواخر عام2008 لمنع انهيار القطاع المصرفي. في الوقت نفسه, التداعيات الفوضوية للفشل عبر الحدود اصبحت واضحة للعيان. فعندما كان يتعثر بنك في ايسلندا كانت الحكومة تعوض المدخرين المحليين فقط. اما عملاء البنك من انجليز وهولنديين فكانت تنقذهم حكوماتهم. وعندما صدر قانون دودفرانك الاميركي للاصلاح المالي في عام2010 وألزم الشركات القابضة للبنوك الاجنبية بتلبية معايير رأس المال الملزمة بها البنوك الامريكية, لجأت بنوك مثل باركليز ودويتشه الي نقل عملياتها المصرفية الامريكية من شركاتها القابضة الي كيانات اخري خاضعة لقواعد تنظيمية اقل صرامة. غير ان قواعد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الجديدة تضع حدا لمثل هذه الحيل. والبنوك الاجنبية ستضطر الي دمج جميع فروعها الامريكية تحت مظلة شركة قابضة وسيطة تكون ملزمة بتلبية معايير السيولة ورأس المال والرفع المالي الذي تلتزم به البنوك الامريكية المماثلة في الحجم. وسيتعين علي البنوك التي لديها اصول بقيمة50 مليار دولار في الولاياتالمتحدة تطبيق المعايير وفقا للقواعد التي تمت الموافقة عليها, وستدخل حيز التنفيذ في يوليو عام2016.( وذلك بدلا من10 مليارات دولار وفي يوليو2015 كما كان في المقترح الاصلي). وتضيف الايكونومست بأن تحركات الاحتياطي الفيدرالي سوف تزيد عرقلة التمويل العالمي, حيث انخفض حجم الإقراض عبر الحدود من5.8 تريليون دولار في عام2007 الي323 مليار دولار فقط في النصف الاول من عام2013 وفقا لشركة ماكينزي العالمية للاستشارات. ومعظم هذا التراجع يعكس القوي الاقتصادية والتجارية وان كان للاجراءات التنظيمية دور مهم ايضا. وعلي سبيل المثال, ضغط المنظمون الاوروبيون علي البنوك الاجنبية لتحويل فروعها الي شركات ذات رأس مال منفصل ومنعتها من إعادة رأس المال الي البنوك الرئيسية( الأم) في الخارج عن طريق حجز رأس المال والسيولة محليا فان القواعد الامريكية الجديدة تقيد اي بنك عالمي عن توزيع امواله ونقلها الي الوجهات الاكثر ربحية بالنسبة له. مما يعني تقليص مكاسب كونه بنكا عالميا. ويشير احد المحللين الي ان اختبارات تحمل الضغوط المالية سوف تلزم هذه البنوك بزيادة مستويات رءوس الاموال والسيولة مما يجعل من الصعب عليها إعادة تحويل اي رأس مال زائد لديها من الولاياتالمتحدة الي اي فرع غير امريكي او حتي توزيع العوائد علي البنك الأم. في تقدير الاحتياطي الفيدرالي ان هناك15 الي20 بنكا اجنبيا ستحتاج الي توفيق اوضاعها وابرز البنوك التي لن تحتاج الي مجهود كبير بنك بي ان بي باريبا واتش اس بي سي. اما بنوك دوتيشه, باركليز, رويال بنك اوف سكوتلاند فأمامها الكثير حتي تتوافق اوضاعها. وعلي سبيل المثال, قد يحتاج دويتشه بنك الي تقليص ميزانيته الامريكية بواقع مائة مليار دولار, لكنه سيظل في حاجة الي الاحتفاظ بمليار الي ملياري دولار من رأس المالي الاضافي. ولكن هذا التقليص سيؤدي الي خسارة تلك البنوك لجزء من حصتها في سوق تداول السندات لصالح البنوك الامريكية المنافسة. مجلس الاحتياطي الفيدرالي اعترف بإثارته لزوبعة في سوق التمويل العالمي لكنه قال انه امر مجد. فالأسوأ في رأي محافظ البنك هو حدوث ازمة جديدة تتسبب في انهيار التدفقات الرأسمالية العالمية. من جانبهم ابدي المسئولون الغربيون قلقهم ليس إزاء الاضرار المتوقعة علي اسواق رأس المال فحسب وانما علي مسار التعاون الدولي في مجال تنظيم القطاع. المانيا انتقدت خطوة الاحتياطي الفيدرالي من جانب واحد, فرنسا ابدت استياءها الشديد, سويسرا اتهمت امريكا بأنها لا تثق في اصدقائها. كما حذر ميشيل بارنييه المفوض الاوروبي من اتخاذ تلك الاجراءات التمييزية التي لن يقبلها الاوروبيون. كان الاحتياطي الفيدرالي قد بدأ منذ سنوات في التعاون مع نظرائه الاوروبيين لاتخاذ منهج موحد لاعادة هيكلة البنوك العالمية وهو ما كان سيحول دون الحاجة الي القرار الاخير, ولكن باتخاذ تلك الخطوة قبل الانتهاء من المشروع المشترك, فان الاحتياطي الفيدرالي يخاطر بتشجيع الاخرين علي القيام بالشيء نفسه. ------- أزمة البنوك الأوروبية مع قرار الفيدرالي: علي جانب واحد من المحيط الأطلسي, لاتزال مجموعة صغيرة من البنوك تستطيع تحقيق ارباح جيدة من تداول الاسهم والسندات والادوات المالية الاخري. ومن جهة اخري, تشديد قواعد رأس المال وعدم توازن نماذج الاعمال تجعل من المستحيل تقريبا للبنوك الاستثمارية ان تحقق نفس الارباح عن طريق القيام بنفس الاعمال. الفصل الاخير من قصة متاعب البنوك الاوروبية كتبها قبل اسابيع قليلة بنك باركليز البريطاني. البنك حقق5.2 مليار جنيه استرليني(8.6 مليار دولار) قبل خصم الضرائب في عام2013. لكن الربع الاخير كان مروعا بالنسبة لجميع الاقسام تقريبا حيث لم تتجاوز الارباح عن تلك الفترة191 مليون جنيه استرليني. وتعرض انتوني جينكينز الرئيس التنفيذي الإصلاحي للبنك لانتقادات لاذعة بسبب منح المصرفيين الاستثماريين مكافآت سخية علي الرغم من تراجع الارباح. ضعف الربحية ليست مشكلة باركليز وحده, فمنافسه اللدود دويتشه بنك تكبد خسائر قدرها1.2 مليار جنيه استرليني(1.6 مليار دولار) عن الربح الرابع. وتراجع ارباح البنكين يعكس التباطؤ المفاجئ في التعاملات علي السندات, العملات, السلع الدولية( انشطة الدخل الثابت وتعرف باسمFICC) وهي المصدر الرئيسي للارباح. ولكن العجيب انه بعد بداية قوية لعام2013 انخفضت ارباح دويتشه عنFICC بنسبة64% في الربع الاخير مقارنة بالربع الاول. وفي باركليز انخفضت47%. البنوك الامريكية الرائدة مثل جي بي مورجان تشيس وبنك اوف امريكا شهدت تراجعا ايضا ولكن تحسن اسواق الاسهم التي لديها فيها حصة اكبر من بنوك باركليز ودويتشه عزز ارباحها. وهذا التباين ينعكس في العائد علي حقوق المساهمين ومعايير قياس الربحية. وقد تخلص كل من باركليز ودويتشه من بعض الاعمال غير المربحة مثل تداول الرهون العقارية الامريكية والمشتقات المعقدة. والان هناك اتجاه لخفض التكاليف من اجل استعادة الربحية, فيسعي باركليز الي خفض نفقاته الي16.8 مليار جنيه استرليني بحلول عام2015 مقارنة ب18.7 مليار جنيه استرليني في عام2013. ومن المقرر تسريح12 الف موظف من بينهم حوالي400 مصرفي استثماري. اما دويتشه فقد قام بالفعل بتسريح3000 موظف تقريبا منذ عام2011, من بينهم1500 مصرفي استثماري. ومع ذلك, هذه الاجراءات قد لا تكفي في مقابل الارتفاع المتواصل في تكاليف الامتثال لقواعد الاحتياطي الفيدرالي الجديدة وتلبية متطلبات رأس المال الاعلي. ويؤكد كلا البنكين قدرته علي الرسملة لكن امكانياتهما تبدو ضئيلة بمقياس اكثر صدامة وهو نسبة الرفع المالي الذي يلقي قبولا علي جانب الاطلسي. كلا البنكين قلص اصوله المحفوفة بالمخاطر باركليز بنحو32 مليار جنيه استرليني, ودويتشه بنحو32 مليار جنيه استرليني ايضا. عندما تصبح القواعد الجديدة سارية التنفيذ سوف يحتاج كل منهما الي المزيد من رأس المال او تقليل الاصول. وكلا الخيارين لا يصلح لتحسين العائد علي حقوق المساهمين. ويأمل باركليز زيادة العوائد علي تكلفة حقوق المساهمين المقدرة بنحو11.5% بحلول عام2016 وهو امر من غير المرجح حدوثه دون تغييرات كبيرة. يتوقع العديد من كبار المصرفيين انتعاش الاسواق لكنه تفاؤل في غير محله في رأي الايكونومست. وقد نقلت نيويورك تايمز تحذير النقاد لقرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي بأنه سوف يعوق تدفق رءوس الاموال عبر الحدود بل سيدفع البنوك الاجنبية الي تقليص نشاطها في الولاياتالمتحدة بما يضر بالاقتصاد الامريكي ولكن من ناحية اخري يقول المدافعون عن سياسة الاحتياطي الفيدرالي. إن البنوك الاجنبية تعمل في الولاياتالمتحدة برأسمال يقل كثيرا عن منافسيها الامريكيين. بل ان دويتشه بنك لديه نسب رأسمال سلبية وهو امر لم يحدث في تاريخ البنوك والتقديرات تشير الي حاجته الي مليارات الدولارات للامتثال الي القواعد الجديدة. عن طريق العمل بمستويات متدنية من رأس المال, تمكنت البنوك الاجنبية من خفض تكاليف التشغيل مما منحها ميزة تنافسية امام البنوك الامريكية مثل جولد مان ساكس ومورجان ستانلي, الوضع الذي سيتغير حتما في ظل تطبيق القواعد الجديدة.