هناك حقيقة من الحقائق المهمة التى يجب ألا ننساها فى زحمة التغيرات السريعة والتحولات المصاحبة هى أن الاقتصاد الزراعى كان بلا شك الأساس المتين لقوة مصر التاريخية، وكون مصر بلدا زراعيا ومجتمعا زراعيا فى الماضى كان نقطة قوة وتفوق. وأثبتت السنوات القليلة الماضية صحة تلك المقولة، بالإضافة إلى الدروس الجديرة بالملاحظة فى تاريخ التنمية الزراعية فى أنحاء العالم المختلفة التى تبرهن على أنه لا تكاد تكون هناك دولة استطاعت الشروع فى تحقيق نمو اقتصادى على أسس حديثة والمحافظة عليه دون أن تكون قد بدأت أولاً باستغلال إمكانياتها الزراعية وتنميتها. إن الأزمات التى تواجهنا ليست وليدة اليوم أو كما يرى البعض أنها أزمة بسيطة أو مجرد اختلال اقتصادى بل هى أزمة مركبة إن كان الاقتصاد هو التعبير المباشر عنها فإنها تمتد أصولا وفروعا إلى أبعاد عديدة سابقة ولاحقة للاقتصاد، وإذا كانت معظم هذه الأبعاد محلية فإن بعضها عالمى ومستورد والبعض الآخر مستحدث، فهى فى نهاية المطاف أزمة جغرافية تاريخية حضارية سكانية اقتصادية سياسية. ومن ثم فإن مواجهتها فى حاجة إلى إستراتيجية وخطة شاملة . ولا تنفع الحلول الجزئية التى سرنا عليها طوال العقود الماضية - ومازالت متأصلة فى فكرنا التنموى - لعلاج الأزمة. مشكلة مصر، أنها استقطبت من النظامين (الرأسمالى والاشتراكى) أسوأ ما فيهما، فأصبحنا لا اشتراكيين ولا رأسماليين لقد اخترنا نماذج معينة للتصنيع لا تتناسب إطلاقا مع مواردنا، ولا مع واقع الفقر وانخفاض مستوى معيشة أغلبية السكان . ولعل ذلك يفسر لنا تفاقم مشكلة الغذاء وانخفاض درجة إشباع الحاجات الأساسية. فكل مشكلة نواجهها الآن باتت تحل بمشكلة أخرى . وسوف يتصاعد منحنى الأزمة نتيجة التشابكات المحلية والإقليمية والدولية، خاصة بعد أن اتجه المستثمرون فى أعقاب الأزمة المالية إلى الاستثمار فى الزراعة فيما أطلق عليهم المستثمرين الجدد، وعلى رأسهم كثير من القادة العسكريين فى الجيش البريطانى وعلى رأسهم تشارلز وات الرئيس السابق للقوى البرية فى الجيش البريطانى ومليارديرات من الصين ومستثمرون من وول ستريت الذين اتفقوا مع رجال المال جورج سوروس الذى صرح بأن:»الأراضى الزراعية هى أفضل الاستثمارات فى عصرنا». ويسارع عدد من المستثمرين البريطانيين والجامعات الأمريكية للتنافس مع نظرائهم من الصين والسعودية والخليج العربي، لشراء الأراضى الزراعية فى إفريقيا للاستفادة من نقص الغذاء المحدق بالعالم بحسب صحيفة ديلى ميل. وأصبحت بريطانيا أضخم مركز لمشترى الأراضى الزراعية ومعظمها فى إفريقيا حيث اشترى مستثمرون مساحات زراعية هناك تزيد على 10 أضعاف بريطانيا. وقد أسهمت عوامل عديدة، بدرجات متفاوتة فى عدم التطور والتقدم الزراعى، منها: تحيز السياسات فى الماضى ضد الزراعة والاهتمام بالصناعة على حساب الزراعة، ووجود تشوهات كبيرة فى الأسواق العالمية للمنتجات الزراعية نتيجة لحماية ودعم الزراعة فى كثير من البلدان المتقدمة. وكانت الاعتبارات المتعلقة بالإيرادات أحد العوامل الرئيسية لفرض الضرائب على الإنتاج الزراعى والصادرات الزراعية لأن الزراعة كانت تمثل النشاط الاقتصادى الوحيد الذى يمكن فرض الضرائب عليه، بالإضافة إلى الاعتبارات الاجتماعية والسياسية التى كانت تحتم الإبقاء على أسعار الأغذية منخفضة، وكانت مجالس السلع والتسويق التى تسيطر عليها الدولة هى التى تقوم بذلك فى معظم الأحيان، ومازال هذا السيناريو مستمرا دون أن يوقفه أحد. ولقد شهدت العقود القليلة الماضية تغييرات أثرت على الزراعة، فلم تكن الزراعة المصرية تعرف مشكلة تربة أو سماد فى ظل الرى الحوضى وكانت التربة تتجدد تلقائيا وتسمد نفسها بنفسها ذاتيا بالفيضان (الماء الأحمر) بطبقة الغرين التى تكسوها التربة سنويا والتى تعد بكل ما تحمل من عناصر غذائية عضوية وغير عضوية للأرض والنبات بمثابة «وجبة» سنوية حقيقية للتربة تغذيها وتجددها. لكن عقب التحول إلى رى دائم وخاصة بعد إنشاء السد العالى تحول نمط الزراعة إلى نمط جديد، كذلك الحال بعد العولمة التى فرضت على الزراعة المصرية نمطا جديدا مخالفا للنمط القديم، مما يتعين علينا أن نغير من سياستنا الزراعية بإيجاد آليات مختلفة كلية عن الآليات التى اعتدنا عليها لسنوات طويلة، فأسعار الغذاء تجاوزت حدود المعقول خاصة أن قضية الغذاء لا يعالجها المجتمع الدولى على النحو الصحيح. كما أن التعاون الدولى أصبح الآن أكثر هشاشة من أى وقت مضى. وأن سد الفجوة الغذائية عن طريق الواردات التجارية لا يعد من البدائل الواقعية حيث لا تتوافر فرص طيبة لتحقيق زيادات جوهرية فى حصيلة النقد الأجنبي. ولقد اعترف كوفى أنان، رئيس مجلس إدارة التحالف من أجل ثورة خضراء فى إفريقيا بأن «أى مزرعة إفريقية متوسطة ذات حيازة زراعية صغيرة تسبح ضد التيار وحدها. فهى غير مؤمَّنة ضد أنماط الطقس المتقلبة، ولا تحصل على أى دعم، وغير قادرة على الوصول إلى الائتمان. وفى الصندوق الدولى للتنمية الزراعية (إيفاد)، يؤمن المسئولون بأن مزارعى الحيازات الصغيرة لابد أن يعاملوا باعتبارهم من أصحاب الأعمال الصغيرة وليس بوصفهم فقراء يحتاجون إلى الصدقات. وهناك اعتراف متزايد بأن مزارعى الحيازات الصغيرة ومجتمعاتهم الريفية يشكلون جزءاً رئيسياً من حل المشاكل المتعلقة بالأمن الغذائى والفقر. ولكن هذا لن يتسنى لهم إلا بحصولهم على ما يحتاجون إليه لمزاولة أعمالهم. فلاح اليوم ليس إلا سن صغير فى ترس من تروس بنية تحتية هائلة، لبنيان تكنوقراطى يحتاج دائما إلى تشريعات خاصة ودعم مالى كثيف. مقارنة بأسلافه الغابرين الذين كانوا يصنعون بأنفسهم كل شىء تقريبا لإنتاج وزراعة وتوزيع الغذاء. ولو تناولنا إحدى القضايا المؤثرة فى الزراعة اليوم مثل قضية السماد، فسنجد أنها تعكس أزمة هوية الاقتصاد المصرى التائه بين الإيديولجيات حتى وبعد زوالها من الدول التى ابتدعوها. وقصة إدمان السماد معروفة، فبانتهاء الحرب العالمية الأولى ظل هناك مخزون هائل من النيتروجين، وطاقات إنتاج صناعى ضخمة معطلة. ولكن لم يعد هناك أسواق لتلك المتفجرات. حينئذ قررت الصناعة ضخ الأسمدة النيتروجينية نحو الزراعة. الأسمدة النيتروجينية فى شكل الأملاح شبه النقية، عالية التركيز، مثل أسمدة النترات والأمونيا، هى نوع من أنواع الإدمان. فكلما استخدمت أكثر، أصبحت مضطرا لأن تستخدمها على التوالى أكثر فأكثر. وسرعان ما أصبحت هذه الأسمدة «بيزنس» كبيرا. وهكذا طورت الصناعة مجموعة كاملة من أسمدة الفوسفات، والبوتاس، والكالسيوم، والعناصر الدقيقة. ومن المعروف أن الأسمدة من المدخلات القوية المعززة للإنتاجية. والواقع أن ثلث الزيادة فى إنتاج الحبوب على نطاق العالم و50% من الزيادة فى إنتاج الهند من الحبوب إنما ترجع إلى عوامل ذات صلة بالأسمدة. بيد أن استخدام الأسمدة ليس غاية فى حد ذاته، بل هو وسيلة للتوصل إلى زيادة الإنتاج الغذائي. ويشكل القمح والأرز والذرة المحاصيل الرئيسية التي تستخدم فيها الأسمدة بكثرة حيث تستأثر مجتمعة بما يزيد على 50% من الاستخدام العالمى كله. وتستأثر بلدان فى شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وغرب أوروبا بما يقترب على 80% من الاستخدام الكلى للأسمدة . وهناك شرط واضح وضرورى ينبغى استيفاؤه كى يتمكن المزارعون من استخدام الأسمدة، هو أن تكون متاحة مسبقا كى يتمكن المزارعون من شرائها واستخدامها عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. واستطاعت دول كثيرة أن تحل مشكلة الفقر وتحقيق الأمن الغذائى من خلال الدعم المقدم للزراعة، فالصين تدخل فى الوقت الراهن مرحلة خاصة تتمثل فى دعم التنمية الزراعية بالاستفادة من ثمرات الإنتاج الصناعى، لذا، فمن المتوقع أن تستمر سياسة تقديم الدعم الزراعى للفلاحين فى المستقبل. وفى بداية الثمانينيات وصلت نسبة دعم الأسمدة إلى 50 و 70% من ثمن السماد. فحكومات العالم الثالث تدعم استعمال السماد لتحقيق الاكتفاء الذاتى فى الغذاء، ولتنشيط عملية إنتاج المحاصيل للتصدير. ولقد استخدم العديد من البلدان النامية إعانات الأسمدة وغيرها من الإعانات للتشجيع على استخدام الأسمدة وتعويض آثار انخفاض أسعار المحاصيل التى غالبا ما تحددها الحكومات أو المؤسسات شبه الحكومية التى تقوم بشراء المحاصيل. لكن المشكلة تزداد تفاقما عندما يتم رفع سعر السماد وخفض سعر المحصول، ومن ثم يعمل هذا الاتجاه على المضى قدما فى طريق الخصخصة لكن بأسلوب اللعب فى التسعير. ولكن حل مشكلة الأمن الغذائى يتطلب تحسين أسعار محاصيل المزارعين وفى تشجيعهم على استخدام الأسمدة، وزيادة غلة الفدان. قد يكون استيراد جميع المستلزمات هو الاختيار الوحيد السليم وقد لا يكون هناك بديل متوسط الأجل إذا لم تكن هناك مواد خام مناسبة. بيد أن الاستيراد باهظ التكاليف فيما يتعلق بالنقد الأجنبى ويمكن أن تزداد حدة هذه التكاليف مع ارتفاع الأسعار الدولية للأسمدة. فالاعتماد الكلى على الواردات له مساوئه أيضا من حيث إن الأسعار المحلية للأسمدة ستميل إلى أن تكون متسقة كلية مع أسعار السوق الدولية، كما أن الإمدادات المحلية ستعتمد تماما على سلاسة إدارة عملية الشراء والتوريد من المورد الأجنبى إلى المستودع الرئيسى للمستورد، وقد تتسبب أى معوقات فى حدوث نقص محلى وانخفاض فى المحصول وتأثر الأمن الغذائى فى مرحلة لاحقة. وينبغى للحكومة أن تعمل دائما على ضمان إجراء عمليات مسح شاملة للمواد الخام وأن يتم استعراضها بصورة منتظمة فى ضوء التطورات التقنية الحديثة. مع ضرورة تحديث المصانع لتتواكب مع متغيرات العصر وليس بالتخلص منها بحجة أنها غير كفؤة، فصناعات السماد أصبحت من الصناعات الإستراتيجية التى لا يمكن التخلى عنها تحت أى ظرف . فإذا تم التفكير فى إحداث تغييرات سياسية فى النظام القائم، فينبغى أن يكون الهدف من ذلك هو تعزيز الفاعلية بتزويد المزارعين بالأسمدة فى الوقت المناسب وتحسين الكفاءة بتخفيض التكاليف غير الضرورية الخاصة بعمليات التسويق والتوزيع أو القضاء عليها. ومن الضرورى أيضا النظر فى أوضاع قطاعات السوق القائمة بالفعل فى البلاد، كبار المزارعين التجاريين المزارع التجارية الشاسعة، محاصيل التصدير، زراعة المحاصيل الغذائية لكفاية المزارعين .. الخ. وكثيرا ما تختلف تكلفة تسويق الأسمدة اللازمة لأحد القطاعات عنها بالنسبة لقطاع آخر. كما أنه ليس من الصواب إدخال عناصر تسويق معينة تكون صالحة فى بلد ما إلى بلد آخر دون أن ندخل عليها التغييرات التى تتمشى مع ظروف البلد الآخر. وتعتبر الفلبين نموذجا جيدا للرقابة الحكومية غير الصارمة نسبيا مع وجود قطاع خاص كبير. وتتولى هيئة الأسمدة والمبيدات إصدار أذون الاستيراد وتجميع الإحصاءات القومية عن الأسمدة وتطوير صناعة الأسمدة. والسوق بوجه عام. وتتولى هذه الهيئة أيضا مسئولية تسجيل الأسمدة بموجب القانون وفحص جودتها وخاصة فيما بين صغار الموزعين حيث تتعلق المشكلة الرئيسية فى كثير من الأحيان بالغش ونقص الوزن. ويتولى القطاع الخاص مهام أخرى. وعلى العكس من ذلك يوجد فى كوريا الجنوبية رقابة حكومية عامة على جميع المستويات. وتضع وزارة الزراعة التقديرات للطلب الكلى والمبيعات الكلية فى كل منطقة سوقية من خلال مسح قطرى. ويصدر الاتحاد التعاونى الزراعى المملوك للدولة الذى يملك 25% من أسهم أكبر شركات الأسمدة المحلية (مملوكة أيضا للدولة) عطاءات تنافسية سنوية لصناعة الأسمدة المحلية من أجل توريد كامل الاحتياجات السنوية من الأسمدة اللازمة للسنة التالية كما يتناول جميع جوانب التوزيع. ويمكن أن يكون هناك هيكل تسعيرى مزدوج حيث تقوم مثلا مؤسسات التسويق شبه الحكومية ببيع الأسمدة المعانة إلى قطاع المزارع الصغيرة وتقوم المؤسسات الخاصة الأخرى ببيع الأسمدة بالتكلفة الكلية لقطاع الملكيات الكبرى. إن التسعير لعموم المناطق بحيث يكون سعر سماد أو أسعار عدد من الأسمدة على نفس المستوى فى جميع أرجاء البلاد يمكن أن يكون موضع نقد من حيث إنه «يعاقب» مستخدمى الأسمدة الذين يتواجدون على مقربة من مراكز التوزيع بفرض أسعار أعلى من اللازم عليهم حتى يمكن تزويد المزارعين الموجودين فى المناطق النائية بالأسمدة المعانة بدرجة أكبر. وهناك أساليب وآليات كثيرة للحد من ارتفاع أسعار السماد لكنها فى حاجة إلى إدارة كفؤة قل أن نجدها وسط المناهج المدرسية التى اعتدنا عليها لسنوات طويلة.