يبدو أن التاريخ يعيد نفسه أحيانا، وأن علوم التحليل الاقتصادى والنقود والبنوك والمالية العامة لم تتغير أساسياتها كثيرا. ففى مسابقة الالتحاق بالبنك الأهلى المصرى سنة 1960 (وكان وقتها يقوم بعمل البنك المركزى) جاء السؤال التالى: فى حالات التضخم أو الانكماش يستخدم كل من البنك المركزى ووزارة المالية أسلحته لعلاج الحالة.. اشرح وحلل وكانت أحسن الإجابات تتلخص فى الآتى: من بين أسلحة وزارة المالية نجد الآتى: 1- تمويل الميزانية بالعجز لمواجهة التضخم وارتفاع الأسعار غير المبرر، أو تمويلها بالفائض لمواجهة حالات الكساد والركود، فكمية النقود هنا هى المعيار. وقد تعلمنا من الفرنسيين أن التضخم هو عبارة عن كمية كبيرة من النقود تطارد كميات متناقصة من السلع والمنتجات فى ذات السوق. 2- إصدار سندات قروض الخزانة لسحب فائض الأموال أو شرائها لتوفير السيولة للسوق. 3- تجميد الأجور والعلاوات والتوظيف أو إطلاقها. 4- الحد من سياسة البيع بالتقسيط أو تشجيعها وفقا لكمية النقود. أما أسلحة البنك المركزى فتتلخص فى الآتى: 1- رفع أو خفض أسعار الفائدة والخصم وإعادة الخصم. 2- التحكم فى كمية النقود أو إطلاقها. 3- الحد من الإقراض وتصعيبه للحد من التضخم أو تسهيل الإقراض لتخطى حالة الكساد، والتحكم فى التسهيلات الائتمانية زيادة ونقصانا وفقا للحالة. 4- خفض سعر الصرف أو تركه للسوق للحد من الاستيراد وتشجيع الصادرات (الصين الآن مثالا). وبدون الإخلال بمبدأ استقلالية البنك المركزى فإنه يجب التنسيق بين السياسات النقدية (البنك) والسياسات المالية (الحكومة) وإلا فيمكن أن تتعارض السياسات وتلغى أحداها الأخرى. وقد مرت مصر فى مطلع التسعينيات بأزمة أشد كثيرا مما تواجهه الآن. وعبرتها بنفس مبادئ وأسس علوم الاقتصاد وأسلحة البنك المركزى والمالية، بل انتصرت على أزمة مديونية خارجية كبرى. ونمر الآن بأزمة أقل حجما، لكن يعوق حرية الحركة اختلاط أوراق الحديث بين من يتناولون الأزمة. ومنهم من رفع شعار: (لا) للصندوق وللاقتراض ولخفض سعر الجنيه. والواقع أنه ليس هناك فى أغلب التجارب ما يثير القلق من استخدام الاقتراض. ولقد مرت مصر بتجارب مديونية أو عجز الموازنة العامة منها: 1- عجز الموازنة وقت محمد على باشا بنحو 14 مليون قرش صاغ. 2- مديونية حكومة الخديوِ إسماعيل وتعيين مفتشين من بريطانيا وفرنسا فى وزارة المالية المصرية. 3- قرار قمة الخرطوم العربية فى أغسطس 1967 بدعم قدرات مصر. 4- مديونية مصر سنة 1969 للولايات المتحدة (290 مليون دولار). 5- دعم دول الخليج لانتصار مصر فى حرب أكتوبر 1973 بودائع فى البنوك. وصندوق للتنمية برأس مال 2200 مليون دولار. غير أن مصر توسعت فى الاقتراض الخارجى فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات. وعندما بلغت المديونية نحو 52 مليار دولار، ألغى المجتمع الدولى 05% منها. وأسقطت الدول العربية كامل المديونية. والآن نسأل عن الحل فنقول: 1- العودة للإنتاج بكامل الطاقة وحل مشكلات المستثمرين. 2- تحسين خدمات الصحة والتدريب المهنى والتعليم والبحث العلمى، والأخذ بيد الطبقات الأكثر احتياجا. 3- توسيع فرص الصادرات (وكانت قد بلغت 31 مليار دولار). 4- تنشيط السياحة (15 مليار دولار) وحل مشكلاتها، وتشجيع تحويلات المصريين بحرية ودون ضغط عليهم وبسعر السوق للدولار (كانت قد وصلت إلى 22 مليار دولار). 5- الانتهاء من لوائح قانون الاستثمار وتوفير الأراضى وحل المنازعات بسرعة وبكفاءة. 6- النفاذ للأسواق التى تربطنا بها اتفاقيات للتجارة الحرة: العربية والأوروبية والكوميسا، والإصرار على عقد اتفاق للتجارة الحرة مع أمريكا. 7- سياسة صرف وفقا لبرنامج الإصلاح وسياسات ضريبية تعظم من الحصيلة دون مبالغة. ومن ذلك نلمس أن مؤشرات النجاح لا تقف عند الحد من عجز الموازنة وتحقيق سعر صرف متوازن واحتياطى نقدى كبير؛ فكل هذه مؤشرات على سلامة الجسد الاقتصادى. لكنها لا تضمن بالضرورة فوزنا فى سباق الألف متر. وتبقى مؤشرات النجاح الحقيقية فى الآتى: 1- هل الاقتصاد المصرى جيد ومنافس، وقادر على التصدير واقتحام الأسواق؟ 2- هل السوق المصرى مستقر ويوفر المناخ الملائم لجذب استثمار مصرى وعربى وأجنبى؟ 3- وهل يؤدى ذلك إلى المقدرة على خلق الوظائف، وتحقيق معدلات نمو طموحة، ويحسن جودة حياة الناس؟ فتلك هى مؤشرات النجاح الحقيقية.