تراقبه البهائم متلهفة وهو يمسك بيمناه قوس الأذى، الذي لا غنى له عنه. تكاد ترقص وهي ترى أعواد البرسيم تترنح صريعة تحت قدميه، فيلمها كومات متلاحقة، ثم يحملها على كتفه، ويلقيها أمام الأفواه المفتوحة إلى آخرها. يتركه ملقى عند الأعواد الواقفة، يتوعدها بمعركة جديدة في الغد، ولا يمنحها شيئًا سوى بريقًا من نور شمس الصباح المشرقة، ينكسر على الأوراق اليانعة الغضة، التي تعرف جيدًا مصيرها المحتوم بين قواطع وأنياب وضروس متينة. في موسم حصاد القمح تكون المعركة أشد وطأة، فالأعواد لا تلين ولا تستسلم بسهولة. تقاوم الموت على قدر استطاعتها، لكنها لا تلبث أن تتهاوى نائمة على ظهورها، دون أن يسمع أحد أنينها المتواصل، لكن اليمام والعصافير التي تنتظر الحب المتطاير على أحر من الجمر، تسمع كل شيء. يرفع المنجل في وجه اليمام، فيفر بعيدًا، وهو لا ينسى ما جرى لواحدة منها ذات ضحى، حين تمكن الحاصد من الإمساك بها. رفرفت في يده، محاولة الإفلات منه، لكنه عاجلها بجز رقبتها، وراح يعد قطرات الدم، التي تناثرت فوق الحد الحديدي المسنون. هرولت نحوه بساقيَّ الرفيعتين، وصرخت في وجهه: حرام عليك. لكنه طوح ذراعه في وجهي، وراح ينتف ريش الذبيحة، ثم جمع حطبًا، وغسل اللحم الناعم بماء الترعة، وأشعل النار، ونظر نحوي وقال: نأكلها معا. لكنني هرولت بعيدًا أرفرف كبقية سرب اليمام الذي وقف فوق أغصان شجرة السنط العالية، يراقب احمرار واحدة منه فوق الجمرات الصافية، ويبكي بصوت لم يسمعه هو، لكنني أنا الذي رحت أنصت إليه. قلت للرجل وكأني أنهره: المنجل لذبح أعواد القمح والبرسيم وليس اليمام. أخذ يضحك وهو يدس اللحم المشوي بين فكيه، ثم قال: زوجتي تذبح به الفراخ، حين لا تجد في بيتنا سكينًا. في المساء وجدته واقفًا أمام الحدَّاد، الذي يزور قريتنا كل شهر ليسن السكاكين والفئوس والمناجل. كان منجله في يده، وعلى صفحته دم اليمامة لا يزال طريًا. مده إلى الحداد فدسه على طرف النار، وراح ينفخ في الكير بهمة شديدة، ويبعد أنفه عن الدخان الأحمر الذي صنعه الدم المحروق. هدَّأ أبي من روعي، وقال: ربما كان جائعًا. أما أمي فذكرتنا سويًا بأن هذا الرجل البدين الذي يذهب إلى الحصاد فجرًا، مزق بالمنجل نفسه في العام الفائت كتف جار له، تشاجر معه بعد أن اختلفا على ترسيم الحد بين حقليهما، وقالت: اعتاد أن يسقي سنون منجله بالدم، ولو لم يذبح اليمامة، ربما جز رقبتك أنت. رفعت هامتي إلى قفة معلقة في سقف بيتنا، يتدلى منها منجل طويل، وتطل فأس صغيرة، وقلت: كلما نظرت إليه سمعت صراخ اليمام. لكن أبي ذكرني بالبهائم الجائعة التي تتابع ضربات المناجل في لهفة، والبطون الخاوية التي تتطلع إلى يوم حصاد القمح، والحدَّاد الذي يلتقط رزقه من الحديد الجارح، وبائعي عدة الفلاحة في البندر، وجيوب الحصادين التي تنتظر المواسم، والأرض التي تضيق بالزروع الشائخة، وقال: لا غني لنا عن المناجل. لم يمر وقت طويل حتى رأيت أبي يقف حائرًا على باب حقلنا، يراقب ماكينة الحصاد وهي تجز سيقان القمح، وتلف قتلاها في ربط متساوية، دون أن تغمض لها عين، أو ينال منها التعب. اقتربت منه، وقلت: كانت المناجل أرحم. ربتَّ كتفي، وقال: رحم الله أيامها، كانت تلين في أيدينا، وتهبنا الصبر، وينير لمعانها الفجاج المعتمة بين أعواد القمح والشعير في غبشة الفجر. مع الأيام لم أعد أرى الحدَّاد، ولا الحصادين في عودتهم من الحقول عند الضحى يصدحون بالغناء، ويقبضون على أرزاقهم. ظل اليمام وحده يرفرف فوق السنابل منتظرًا القمح المتناثر على جنبات الرُبط المتساوية، وهو يحاذر من قواطع الماكينة، التي تترك وراءها أرضا قاحلة، يرعى الدود في أكبادها.