يأتي موسم حصاد القمح بالخير على فلاحي مصر، ومن بينهم أهالي محافظة قنا.. "الحصاد" يبدأ من 10 أبريل وحتى 25 مايو من كل عام، وينتظره أبناء الريف على أمل كسب مبلغ من المال يكفي لتأمين احتياجاتهم، وتسديد ما عليهم من ديون، وإتمام متطلبات الزواج وبناء البيوت والحج وغيرها، ولكن مع ارتفاع أسعار الأسمدة والسولار اللازم لماكينات الدرس، وبقاء سعر إردب القمح، تصبح تلك "الآمال" بعيدة عن التحقق على أرض الواقع. يروي الحاج خيري عبد الرحمن، في العقد السابع من العمر، وهو مزارع بقرية الحبيلات الشرقيةبقنا، حكاية زراعة محصول القمح من مطلع الشتاء وحتى بدء الحصاد، "في البداية يستخدم الفلاح بقرته في حرث الأرض، ثم يرش البذور، ويسحب البقرة التي تجر قطعة من جذوع النخل لطمر البذور في الأرض، وفي اليوم التالي يربط البقرة في الساقية لسحب المياه من أسفل مندفعة عبر القواديس الفخارية، فتملأ جداول الحقول وترتوي البذور". وعلى أنين الساقية الشجي، يردد الحج خيري: "ابكي عليّ ونوحي نوحي.. على وليدك في الخلا مطروحي.. ابكي علي وخططي بالعودي.. على الزمان اللي ما راضي يعودي". الحج خيري يرفض الاستعانة بالمحاريث الزراعية "الجرارات"؛ حتى لا يضطر للذهاب إلى محطات الوقود، ويقف أمامها "طابور باليومين"، كما حال أصحاب الماكينات، الذين يرهقون أنفسهم في سبيل الحصول على السولار، خصوصًا بعد أن أغلقت العديد من المحطات أبوابها فى وجه المزارعين، وأصبحت مئات الأفدنة مهددة بالبوار. يضيف: "يبدأ الحصاد عند نضج السنابل، وقتها يهرول الحاصدون بمناجلهم الحادة، وغالبا ما تكون جديدة، ويقومون ب(شرشرتها)، أي تكون كالمنشار، ليتمكنوا من جز أعواد القمح، وهو ما يتم قبل الموسم بفترة لتجنب الزحام". يأخذ فلاحو قنا بالمثل الشعبي القائل "كثر الأيادي في الحصيدة بركة"، ويعبر هذا المثل عن أهمية "العونة" وحشد الطاقات لإنجاز العمل الصعب، لكن فى هذه الأيام أجر الأيادي زاد، ويوضح الحج خيري أن مرحلة الجمع والدراس تكلف نحو ألف جنيه، فالعامل زاد أجره من 50 جنيهاً فى العام الماضى إلى 70 جنيهاً، والفدان الواحد يحتاج لنحو 10 عمال بما يعادل 700 جنيه أجرة عمالة، ثم أجرة ماكينة الدراس وقد ارتفع سعر الساعة من 40 جنيهاً فى العام الماضى إلى 80 جنيهاً هذا العام، والفدان يحتاج نحو 4 ساعات دراس. الفتيات يقمن بربط أعواد القمح و"تغميره"، أي تجميع الزرع المحصود على شكل أكوام، ثم يحلمنه خلف ظهورهن، ويجمعونه في كومة مرتفعة، وهن يرددن: "زمانا قلبنا وعدلنا.. وادي ريحة الجنة فاحت.. لما جينا ناخد عدلنا.. لقينا الأيام ولت وراحت". في اليوم التالي تتجمع الفتيات وهن يحملن المقاطيف على رؤوسهن، يجمعن الفاقد من سنابل القمح في الغيطان، فيقبل بعضهن على بيعه، وبعضهن يقمن بتخزينه، إضافة إلى أجروهن التي يفضلن فى بعض الأحيان، أخذها "قمح"، عقب عملية الدرس كنوع من الاكتفاء. يصل بنا الحج خيري إلى المرحلة الأخيرة وهي عملية الدريس، التي كانت تجري زمان باستخدام بقرة تدور على لحن النورج فوق جرن القمح، تدرسه فتختلط غلات القمح بالتبن، ويجمعه الفلاح كومة واحدة حتى إذا ما هبت الرياح "يُذري" الفلاح الجرن ب"المذراية" فاصلًا غلاله عن تبنه، والاستفادة من الهواء لطرد التبن بعيدًا عن الحبوب وهو يغني: "أمي وأبوي سيبوني صغاري.. وقعدت أقلب في الهموم محتاري.. أمي وأبوي لبسوني حرامي.. خافوا علي من السموم الحامي". الآن تستخدم ماكينة الدراس المكلفة، والتي تعمل بالوقود، ولأجل ألا يهلك المحصول، يلجأ المزارعون إلى شراء حاجتهم من السولار من السوق السوداء بأضعاف سعره، وهو أفضل لهم من فقدان المحصول. وجه الحج خيري مناشدة إلى المجلس المحلى بالقرية، بالتعاون مع جمعيات تنمية المجتمع المحلي، تسليم أصحاب الأراضي كميات السولار المخصصة لكل فدان لحصد القمح. يعود الحاج خيري إلى الحديث حول الحصاد قائلًا: "القمح يُمثل دخلًا مهمًا لأهالي قنا، فيعتمدون عليه كليًا فى حياتهم اليومية، فبعد النفقات الموسمية سواء كانت في زواج الأبناء أو غير ذلك، يُدخر المزارعون مبلغا من المال لنفقاتهم طوال العام؛ حتى يحين موعد حصاد الموسم الجديد". إلا أن الحاج خيري لم يتمكن من استكمال جهاز ابنته الأخيرة لزواجها؛ نتيجة ارتفاع تكلفة زراعة الفدان هذا العام، موضحًا أن فدان القمح وصلت تكلفته لنحو 2300 جنيه، بداية من شراء التقاوى ب140 جنيهاً، والري ب300 جنيه، بفارق 140 جنيهاً عن العام الماضى، وسعر شيكارة اليوريا ب170 جنيهاً، والفدان يحتاج من 4 إلى 5 شكائر، ثم تكلفة الحصاد "ضم وتجميع ودراس". "لم يقتصر الأمر على تدني العائد من زراعة القمح، بل هناك مشكلات أخرى، منها تعنت مسئولي الشون في استلام المحاصيل؛ بحجة عدم توفير الأجوالة"، يقول اللواء مختار فكار، أحد أكبر مزارعي القمح في قنا، مضيفًا، "بعض المسئولين يحاولون إقناع المزارعين ببيع المحصول للتجار أو عبر السوق السوداء". فما أشار أحمد عبدالعليم، وكيل مديرية التموين بقنا، إلى أنه تم توريد 9890 طن و471 كيلو من القمح للمديرية منذ فتح باب التوريد وحتى اليوم، بجميع مراكز المحافظة المختلفة. ذكر عبدالعليم أنه تم تشكيل لجنه مخصصه لتسلم القمح الوارد من المزارعين، لافتا إلى أن سعر الأردب 420 جنيها، وأنه تم رفض كمية من القمح بسبب وجود حشرات وأقماح قديمة من العام الماضى، وبيّن أنه تم تشكيل لجنه لتلقي أي شكاوى من المزارعين، وأن المديرية لم تتلق أي شكاوي.