بللت الدموع أحلام الأسرة المنكسرة في عيون تحمل نظرات الحسرة والأسي علي فراق السند الذي رحل تاركا الجرح، والأفواه التي تتعلق في رقبته لتقلبات الحياة بعد أن حصدت سنابل القمح روحه واختلطت دماؤه بالحبات الذهبية لتشهد علي شقاء سنوات عمره الستين في مشهد لنهاية مأساوية اكتملت معها حلقات أحزانه. «عم سمير» أحاط الفقر منزله بسياج من حديد وتربص للأسرة المكونة من سبعة أشخاص فراح عائلهم الوحيد يشق الدروب لتوفير لقمة العيش للأفواه الجائعة، وانتزعته قلة الحيلة من جذور آدميته فتحول إلي آلة تعمل ليلا ونهارا وكانت أسرته هي قدره المعلق بأنفاسه فيلهث في وادي الزحام حتي يشتد عود أبنائه ويرفعوا عن كاهله همومهم ويستريح من عناء السنين إلا ان «آلة الحصاد» اخرجته من قلب أحلامه وحصدت عمره وتركت لأسرته لوعة فراق الحبيب. السكون كان يخيم علي البيت المتواضع والسماء تنذر بمجيء الصباح ونسائم الهواء تترنح وشوارع الحامول بمركز منوف هادئة لا يعكر السكون سوي صوت ماكينة حصاد القمح. انتهي «عم سمير» من أداء صلاة الفجر ثم تسلل إلي حيث يرقد أبناؤه الخمسة فهم غرسه وفرحة حصاده غطاهم بنفسه وطبع قبلة علي جبين ابنته الصغيرة ثم ربت كتف زوجته لإيقاظها لأداء صلاة الفجر وقبل أن يهم بالانصراف إلي عمله إلي ماكينة حصاد القمح أوصاها بأبنائهما وطلب منها التسلح بالصبر علي تربيتهم واستحلفها ألا تخرج للعمل في الحقول وأن يتحمل ابنهما الأكبر مسئولية اشقائه. راحت الزوجة تحملق في وجه زوجها وتضع يديها علي فمه حتي لا ينطق بتلك الكلمات التي شقت قلبها فلماذا يوصيها بذلك وهو في كامل صحته؟ فقد وهبتهم الأقدار الفقر إلا أنها أشفقت عليهم من المرض فلماذا هذه الكلمات المحفوفة بالتشاؤم وكأنه علي موعد أكيد مع ملك الموت خلال دقائق. تسرب القلق والخوف لنفسها وحاولت منعه من الخروج لعمله إلا أنه ذكرها بالأفواه الخمسة التي تفترش الأرض، وسرعان ما انصرف يستحث الخطوات إلي حيث تدور ماكينة حصاد القمح. شريط من الذكريات مرق أمام عيني العجوز وهو يترجل بين الحقول، يتذكر لحظة زواجه من بنت العم التي شاركته هموم الفقر بلا شكوي ولم تنظر لشقيقاتها اللاتي يعشن في الثراء، دائما كانت تشعره بأنه أفضل رجال الأرض، وأنها لو عاد الزمن للوراء لن تختار سواه . تذكر كيف صانت عرضه وحفظت شرفه وهو يعمل في حقول أثرياء القرية ليل نهار وكانت تتحامل علي آلامها حتي لا تشتري »قرص اسبرين« يزيل أوجاعها توفيرا للنفقات بل كانت تغسل جلبابها الوحيد في الماء لترتديه نظيفا في الصباح مر الأبناء أيضا في شريط الذكريات، رفض أن يناله نفس مصيره من الجهل والمرض، فهمهم علي المذاكرة والتسلح بالعلم ليشغلوا المناصب المرموقة ويفتخر بيهم بين الأهل والجيران، ابتسامة ارتسمت علي وجهه عندما تراءت أمامه صورة ابنته الصغري وهي ترتدي ثوب الزفاف، ليقوم بتسليمها يوما لشريك العمر. ولكن.. أيقظه صوت ماكينة الحصاد التي كانت قد وصل اليها في أحلامه، وشريط ذكرياته، سار بخلع جلبابه وليرتدي ثوب الشقاء، وطلب من زميله الذي كان يعمل علي الماكينة طوال ساعات الليل النزول حتي يستريح وصعد عم «سمير» الماكينة لوضع سنابل القمح بداخلها وحوله تجمع العشرات من أهالي القرية كعادتهم فهم دائما يلتفون حول من يحصد القمح لمساعدته ومشاركته فرحة حصاد المحصول. اخترقت أصوات نداء زوجته صوت الماكينة الصماء، جاءت تناديه من مكان بعيد كي يتناول طعام الافطار الذي حملته فوق رأسها. تعددت نداءاتها بينما ظل هو يطلب منها الانتظار والتمهل. لم يكن موعده قد حان بعد لكنه استجاب أخيرا، واستعد للنزول من أعلي الماكينة، ولكن تعلق جلبابه بها فجأة فسقط برأسه داخلها داخل فتحة الماكينة، لتقطعه أسنانها الحادة مع سنابل القمح وظلت الماكينة في الدوران لمدة عشر دقائق متواصلة وسط ذهول الأهالي وعجزهم عن إيقافها من هول المشهد وسط صراخ الزوجة الذي لا ينقطع حتي تحول رأسه إلي أشلاء، تهشم جسده وانتهت حياته داخل ماكينة حصاد. هرولت الزوجة إلي الماكينة وحاولت القاء نفسها داخلها حتي تنال نفس مصير شريك العمر، حملت تراب الأرض لتضعه علي رأسها ويختلط بدموعها، قبل أن يقع زلزال الخبر ليضرب كيان ابنته وأشقائها الأربعة بعد أن تبدلت أحوالهم، وانطفأ نورهم، وضاعت أحلامهم داخل ماكينة الحصاد وفي لحظات. تم اخطار اللواء سعيد أبوحمد مدير أمن المنوفية وأمر اللواء جمال شكر مدير المباحث بإجراء التحريات حول الحادث وإخطار النيابة التي تولت التحقيق .