أمام بيتنا القديم فى قلب سوهاج كان هذا الحقل المزروع قمحاً، وذلك قبل أن يزحف العمران فوق أطلال اللون الأخضر، وقبيل موسم الحصاد، كان صاحب الأرض وولداه يجن جنونهم من الغربان والعصافير التى تهجم على السنابل، فتفرغ الكثير منها من حباتها، وتتركها جوفاء متكسرة أمام الريح، لينعى صاحب الأرض بعضاً من تعبه وماله الضائع فى حصاده، بعد أن صار أكلا سهلاً للغرابيب، فهداه تفكيره إلى عمل خيال مآتة أو خيال ظل، وغرسه على أعواد الخشب فى قلب الحقل، ليكون فزاعة للغربان السود. فى الأيام الأولى، خافت الطيور من خيال المآتة، واعتقدته انسانا، ولكن ذكاءها الفطرى، جعلها تقف عن بعد لتراقبه وهو يقف جامداً بلا حراك، فبدأت تقترب منه قفزة قفزة ، وعندما لم يتحرك ليطاردها، تجرأت الغرابيب، واقتربت أكثر، وجرؤ غراب ووقف على كتفه.. ثم رأسه، ثم بات ينقر أعضاءه المصنوعة من الخشب والقماش، وعندها ادركت الغرابيب والطيور الأضعف من عصافير ويمام، أن هذا الواقف ليس إلا فزاعة لا تتحرك ولا تدافع حتى عن نفسها، فبات خيال المآتة تسلية الطيور.. تنقره، تلعب فوقه، بل صار لهم مكان لتفريغ مخلفاتهم بعد أن تملأ حواصلها من القمح الذى يحرسه «الخايب بسلامته». وأدرك المزارع ان الغرابيب فطنت لحيلته، ولا جدوى من خيال مآتة لا يحرك ساكناً، فأضاف شيئاً لحيلته، ربط على ذراعيه الخشبيتين رقائق من الصفيح، تحدث صلصلة كلما مسها الريح فتخيف الطيور، اذ يبدو لهم وكأنه يتحرك، وكما حدث فى الأولى حدث فى الثانية، راقبته الطيور بضعة ايام، ثم اعتادته، وتجرأت عليه حين رأيته أيضا لا يهش أو ينش، أخيراً أدرك المزارع ان عليه خوض حرب حقيقية لحماية قوته وزرق عياله، فعمل بجانب خيال المآتة أفخاخا لصيد الطيور، عبارة عن غربال كبير شفاف، «منخل يستخدم فى نخالة الدقيق»، وقام برفع أحد جوانبه من على الأرض بعصاه، وربط العصا فى خيط رفيع طويل، يمسك به أحد أولاده، ووضع أسفل الغربال حبوب القمح، فجاءت الطيور لتلتقط القمح، ويشد الولد الخيط بسرعة، فيقع الغربال على مجموعة الطيور، ليتم اصطيادها. وهكذا وجد المزارع أن الدفاع عن حقله لن يتحقق إلا بيديه هو وأولاده، بخطه اصطياد الطيور بصورة دائمة بتبادل ساعات الحراسة للحقل وعمل الأفخاخ، فاصطاد مئات العصافير واليمام ، بل وبات يبيعها ليزيد رزقه بعد ان كان يخسر بفاقد القمح، أما الغرابيب فكان يذبحها ويتخلص منها، وهكذا اصبح حقله آمناً. تطاردنى قصة جارنا المزارع وأنا أرى مقرات الشرطة والجيش وقد باتت هدفا سهلاً للغرابيب السود من الإرهابيين المأجورين من داخل الوطن أو المدفوعين بحقدهم على مصر من الخارج، لتهديد أمن واستقرار مصر من خلال تلك المخططات الإجرامية التى تدفع المواطنين دفعاً إلى فقدان الثقة بقدراتهم على حماية انفسهم ، لأنهم باتوا اهدافا سهلة يتم اصطيادهم برصاص الغدر والخيانة، فكيف لهم أن يحموا المواطنين ويكفلوا أمن مصر، وهذا ليس لوماً ولا انقاصاً من من قدرات قواتنا الأمنية الذاتية، بل إننى والشعب على ثقة هائلة بقدراتهم التدريبية، وقوتهم الذاتية واستعدادهم للتضحية بأرواحهم لأجل أمننا وأمن مصر، ولكن لا يمكن لأى قوة بشرية أن تواجه الرصاص والمتفجرات بصدور عارية ودون اى آليات حمائية خاصة متطورة. وأتساءل بحسرة، أين هى الوسائل التقنية الحديثة من آليات امنية لحماية المقرات الشرطية ورجال الأمن، وتمكينهم من أداء واجبهم بقدرة وإحكام أكبر، أين كاميرات المراقبة التى يجب زرعها أمام الأقسام والثكنات الشرطية والعسكرية لتراقب كل كبيرة وصغيرة، المصيبة أنه توجد بعض هذه الكاميرات ولكنها تماماً كخيال المآتة لا تهش ولا تنش، مجرد آلات مزروعة تصور وتسجل، ولا يوجد وراءها بشر مدربون لمراقبة ما تسجله على مدار 24 ساعة، ولا توجد غرف تحكم فى هذه الكاميرات لتراقب وتحلل كل حدث أولاً بأول، وتعطى اشارة الخطر فى ثوان للتحرك الأمنى الوقائى المبكر، لحماية المنشأة من أى اعتداء أو تفخيخ لسيارات أو حتى اقتراب «كلب» ضال دون رده والتحرك لصده، وأين هى أبراج المراقبة فوق المنشآت الأمنية التى يجب أن تزود بمناظير وأسلحة قنص، وأجهزة رصد بأشعة حرارية للرؤية ليلاً وعن بعد، لترصد أى تحركات وترسل اشارة لغرفة عمليات أمنية للتحرك نحو الهدف عن بعد، قبل الاقتراب من المنشأة. لقد أبكانى وأضحكنى فى سخرية مريرة ما سجلته كاميرا المتحف الاسلامى للسيارة المفخخة التى تركها الإرهابى باطمئنان واستقل سيارة أخرى وهرب بجريمته ليفجر مديرية أمن القاهرة، رمز قوة الشرطة فى قلب العاصمة القاهرة، فلو كانت هذه الكاميرات وراءها اشخاص مدربون، وغرفة مراقبة وغرفة عمليات فى نوبات عمل متواصلة، لرصد ما تسجله الكاميرا، لتم التحرك بسرعة على الأقل لضبط الإرهابى وتقليل حجم الخسائر الناجمة عن التفكير، لا أن تتم مشاهدة فيلم الكاميرا بعد الكارثة، ما جدوى زرع كاميرات دون غرفة مراقبة وغرفة عمليات أمنية. ويؤسفنى أيضاً أن أرى جنودنا وضباطنا البواسل وهم يواجهون الإرهاب الأسود الخسيس بصدورهم عارية، وكأنها بطولة أن نقدم زينة وخيرة أبنائنا للموت هكذا بسهولة، أين الدروع الواقية، أين الأقنعة الفولاذية التى تستخدم فى الدول المتقدمة لمكافحة الإرهاب، أين الخوذات الواقية من الرصاص، ليست بطولة أن نقدم أنفسنا للموت على أيدى الإرهابيين، يجب أن يكون كل الجنود والضباط المتواجدين الآن فى الشوارع مؤمنين تماماً ضد الرصاص، حقاً العمر واحد والأعمار بيد الله، لكن الله أمرنا بألا نلقى بأنفسنا فى التهلكة، وسنحاسب على تفريطنا فى أنفسنا، لقد بتنا نكره الأخبار وهى تنقل لنا تساقط الجنود والضباط، ويمكن تلاشى كل هذا، أو على الأقل تحجيمه إذ ما دعمنا قدرات جنودنا البواسل الذاتية بآليات أمنية حقيقية، حتى لا تصبح قدراتنا الأمنية كخيال مآتة لا تهش ولا تنش، بل تشجع الغرابيب السود من الإرهابيين على أن يقفزوا فوق رؤوسنا لينقرونا ويتسلوا بدمائنا.