عزمي عبد الوهاب ثقافة غارقة في العنف والدم لا يمكن أن تنتج شيئا غير هذا المشهد: جثة لرجل يذهب إلى المحكمة، بتهمة "إثارة النعرات المذهبية والعنصرية" بعد أن احتجز لمدة شهرين، ثم أفرجت عنه السلطات السياسية في بلاده، بكفالة مالية، وأمام قصر العدل، كما يسمونه هناك، يقترب رجل ملتح، ليحتل قلب المشهد، كان عائدا للتو من أداء فريضة الحج، وقبلها كان يقاتل في سوريا، ضمن صفوف الإخوة المجاهدين.
ثلاث رصاصات، أطلقها الملتحي، أودت بحياة الرجل، الذي لم تكن بضاعته سوى الكلمات، بعدها طار الخبر: اغتيال الكاتب والسياسي "ناهض حتر" أمام باب قصر العدل بالأردن، لأنه شارك في نشر كاريكاتير "مسيء للذات الإلهية" على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" رغم أنه حذف الكاريكاتير، وكتب معتذرا:"شاركت منشورا يتضمن كاريكاتيرا بعنوان "رب الدواعش" وهو يسخر من الإرهابيين، وتصورهم للرب والجنة، ولا يمس الذات الإلهية من قريب أو بعيد، بل هو تنزيه لمفهوم الألوهة عما يروجه الإرهابيون".
صنف "ناهض حتر" من غضبوا من الكاريكاتير إلى: أناس طيبين، لم يفهموا المقصود بأنه سخرية من الإرهابيين، وتنزيها للذات الإلهية، عما يتخيل العقل الإرهابي، وهناك صنف آخر عبارة عن داعشيين، يحملون الخيال المريض نفسه، لعلاقة الإنسان بالذات الإلهية، وهؤلاء استغلوا الرسم، لتصفية حسابات سياسية، لا علاقة لها بما يزعمون".
تلك هي نظرة الطائر لما حدث، لكن ما وراء الدم الذي سال على باب العدل، شيء آخر، له علاقة بأزمة تعانيها السلطات السياسية العربية، في التعاطي مع الدين، شأنها في ذلك شأن الإرهابيين وجماعات الإسلام السياسي، فتوظيف الدين هو المشترك في معادلة الحكم بين الإرهابيين والسلطويين، وما حدث في الأردن أن السيد رئيس الوزراء الأردني "هاني الملقي" قد أوعز إلى وزير داخليته، للقبض على "حتر" والتحقيق معه على خلفية نشر الكاريكاتير الفج (حتى الآن لا يعرف من رسمه) وعلى هذا تم التحقيق مع "حتر" واحتجازه، ثم إطلاق سراحه على ذمة القضية، ليكون القاتل في انتظاره بالقرب من سلالم العدل العريضة.
هنا يدخل رئيس الوزراء الأردني ساحة المزايدة على جماعات الإسلام السياسي، بتقديم رأس "ناهض حتر" عربون محبة أمام الشعب المتدين بطبعه، وبذلك يتخلص الحكم من خصم عنيد، رفض اختيار "الملقي" رئيسا للوزراء، وسجل انتقاداته للانتخابات البرلمانية، ووضع الأقليات فيها، وبالتالي لابد من تأديبه، ربما لم يكن في الحسبان، أن هناك يدا متربصة، تنتظر اللحظة، التي تضغط فيها على الزناد، خصوصا أن "حتر" تعرض من قبل لمحاولة اغتيال فاشلة، عام 1998.
معركة "حتر" كانت في أكثر من اتجاه، فهو مثلا كان يرفض أن يمنح الفلسطينيون الذين يعيشون في الأردن الجنسية الأردنية، وهاجم ياسر عرفات، لأنه طرح حل الفيدرالية على الأردن، بعد وفاة الملك حسين، لكنه كان يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، وضرورة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وهو منحاز لخيار المقاومة، كما قدمه "حزب الله" وله كتاب في هذا اسمه "المقاومة اللبنانية تقرع أبواب التاريخ" ويرفض الوجود الأمريكي في المنطقة وله أيضا كتاب بعنوان "العراق ومأزق المشروع الإمبراطوري الأمريكي" وفي كل الأحوال كانت مواقفه السياسية تدفع السلطات لاعتقاله، وفي إحدى المرات وجهت إليه "تهمة إطالة اللسان".
كان «حتر» يقول:"الواقع أن مشروعي هو أن أكون مثقفا مستقلا، وهذا المشروع ينطلق من قناعة بأن المجتمع دائما، يحتاج إلى نموذج المثقف المستقل، يحتاج إلى مثقفين يرفضون التعامل مع التواطؤ العام" إذن التهمة الحقيقية التي أخذتها السلطات السياسية في الأردن على "ناهض حتر" أنه يرفض التعامل مع التواطؤ العام، لأن المثقف النقدي المستقل يكشف عما هو مضمر، عما هو مسكوت عنه، ويساجل في التواطؤ العام، ويكشفه بإظهاره إلى السطح.
بشكل شخصي لا أعفي الحكومات العربية من التواطؤ مع تنظيمات الإرهاب، التي تضرب في سورياوالعراق وليبيا وغيرها من بلاد العرب، فطريق هذه التنظيمات الإرهابية إلى الدم، مفتوح بمباركة هؤلاء، وسيظل المثقفون العرب يقدمون أكثر من "ناهض" قربانا للدم، ما دام أولئك المثقفون يسعون للتواطؤ مع السلطات السياسية، التي تسعى لاستخدامهم في معركة السلطة.
وبمجرد أن تنتهي معركتها تنفض يدها منهم، ألم يكن رحيل نصر حامد أبو زيد عن مصر، واغتياله بداء الغربة عن الوطن، جزءا من هذا السيناريو القبيح؟ فالرجل صدق هو وغيره أن الدولة المصرية، ترفع راية التنوير، فانبرى مدافعا عن قيم الحرية والعدل، لكن الدولة كانت قد انتهت من حربها ضد جماعات الإرهاب وأطلقت الزغاريد في فرح "مبادرة وقف العنف".
على المثقفين ألا يصدقوا ما يقال عن تجديد الخطاب الديني والثقافي، حتى لا يجدوا أنفسهم في مواجهة مصير "فرج فودة" أو "إسلام البحيري" ولننتظر سرادقات عزاء أخرى نقدمها عندما نفقد "ناهض" من جديد، راح ضحية الإيمان بوهم حرية التعبير والاعتقاد!