هيثم نورى قبل 10 سنوات كان أغلب سكان قارة أمريكا اللاتينية والكاريبى يعيشون فى ظل حكومات يسارية، اليوم لم يتبق منها سوى القليل، بعد فوز اليمين فى الانتخابات بالأرجنتين، وإطاحة حكومة حزب العمال البرازيلي، والآن جاء دور فنزويلا. ففى العاصمة الفنزويلية كاراكاس واصلت المعارضة خلال الأسبوع الماضى ضغطها على حكومة الرئيس نيكولا مادورو لإجباره على التنحى وترك منصبه. وكانت الجمعية الوطنية التى يسيطر على أغلبية مقاعدها "طاولة والوحدة الديمقراطية" المعارضة قد رفضت المرسوم الرئاسى بفرض حالة الطوارئ فى البلاد. كان مادورو قد توقع خلال مؤتمر صحفى الاربعاء الماضى رفض البرلمان لمرسومه بفرض الطوارئ وزيادة سلطات القوات المسلحة والشرطة والامن. فى المقابل، قضت المحكمة الدستورية (أعلى سلطة قضائية فى البلاد) بأن المرسوم الرئاسى دستوري. ودعا زعيم المعارضة انريكى كابريليس الخاسر فى الانتخابات الرئاسية 2013 أمام ما دورو، خلال مظاهرات احتجاجية "فلنرغم نحن الفنزويليين ما دورو على احترام الدستور. لقد ردت الجمعية الوطنية المرسوم الذى أصدره، ولا ينبغى على أى شخص احترامه"، داعيا الجيش للاختيار بين الرئيس أو الدستور. وكانت المعارضة قد جمعت 1.85 مليون توقيع (مجموع السكان فاق 31 مليون نسمة، و 20 مليونا لهم حق التصويت) للدعوة لإجراء استفتاء على شخص مادورو الذى تنتهى مدة رئاسته فى 2019. ولا يزال على لجنة الانتخابات أن ترد رسميا على طلب المعارضة بإجراء استفتاء على شخص ما دورو. من جانبه هدد الرئيس الفنزويلى برفع مستوى حالة الطوارئ التى أمر بها من قبل، إذا ما تسببت المعارضة فى أعمال شغب. قبلها بيوم واحد كانت سفارات الجمهورية البوليفارية الفنزويلية حول العالم قد دعت صحفيين لمتابعة المؤتمر الصحفى الذى يعقده مادورو، والذى سيشرح فيه تطورات الأزمة. كانت الدعوة مقلقة، حيث إنها نادرة الحدوث، خصوصا مع إعلان السفارات الفنزويلية أن بعض المقار الدبلوماسية ستكون مجهزة بخدمة فيديو كونفرانس للسماح بمشاركة الصحفيين فى توجيه أسئلة للرئيس. خلال المؤتمر الصحفى أعلن مادورو عن اختراق طائرة حربية أمريكية للمجال الجوى لبلاده، وهى المرة الثانية التى تعلن فيها كاراكاس عن مثل هذه التحركات الأمريكية. ففى فبراير 2014 قال سفير فنزويلا فى القاهرة فى حديث صحفى، إن طائرة أمريكية اخترقت المجال الجوى لبلاده وكانت تنوى مهاجمة كاراكاس، وهو أمر غير مستبعد من واشنطن التى نظرت للقارة اللاتينية طيلة ما يقارب القرنين على أنها "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة، لكن ليس عليه دليل واضح. وتابع مادورو خلال المؤتمرالصحفى الذى بثته قناة تلى سور (قناة الجنوب) التى أسسها عدد من حكومات اليسار فى قارة أمريكاالجنوبية، قوله إن هناك حربا اقتصادية على بلاده فاقمت الأوضاع الاقتصادية. كانت الحكومة فى كاراكاس قد أعلنت أن البلاد شهدت تضخما بلغ 180٪ خلال 2015، وهو الأعلى فى العالم، فيما يتوقع صندوق النقد الدولى تضخما يصل إلى 700٪ للعام 2016. كما أن البلاد زادت اعتمادها على الخارج فى استيراد السلع الأساسية بعد أن تعمد المنتجون المرتبطون باليمين وقف الكثير من إنتاجهم، الأمر الذى اسهم فى بروز ظاهرة الطوابير الطويلة من أجل الحصول على دقيق أو زيت أو سكر. وعانت فنزويلا صاحبة أكبر الاحتياطيات النفطية فى العالم، من انخفاض أسعار النفط، حيث أشار مادورو خلال مؤتمره الصحفى الطويل أن الأسعار تدهورت من 88 دولار للبرميل فى 2014، ثم 45 دولار فى 2015، وفى 2016 وصلت إلى 35 دولار. من الطبيعى أن تتأثر فنزويلا من تدهور أسعار النفط، حيث تمثل عوائد تصدير البترول 95% من صادرات البلاد. وتابع مادورو فى مؤتمره هجومه على الصحافة الغربية خاصة الأمريكية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال، متهمها بالتضليل. وقال خرجت من ميامى (جنوبالولاياتالمتحدة وبها جالية كبيرة من اليمين الكوبى وغيرها من دول الكاريبي) وبوجوتا عاصمة كولومبيا نحو 1315 خبرا تقريبا، 25 منها عن الاقتصاد اثنان منها فقط كانا اخبارا إيجابية. واتهم مادورو الصحافة الغربية بحجم أى اخبار عن إنجازات حكومته، مثل السكن وخروج ملايين السكان من دائرة الفقر. وبحسب ميركوسور (تجمع اقتصادى لدول أمريكاالجنوبية أسسه القادة اليساريون) أن 56 مليون نسمة من دول القارة (يصل عدد سكان أمريكاالجنوبية نحو 380 مليون نسمة) خرجوا من دائرة الفقر خلال عقد 2003 وحتى 2013، وهو ما أيده تقارير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة. وأضاف مادورو أن الغرب بالتحالف مع اليمين الفنزويلى يسعى لتكرار انقلاب 2002، الذى نفذه ضباط يمينيون مدعومون من قبل إدارة الرئيس الأمريكى الجمهورى السابق جورج بوش الابن. لكن اليوم الجيش الفنزويلى يتمتع بنفوذ كبير فى حكومة مادورو (30 وزيرا)، حيث يتولى 10 عسكريين (4 فى الخدمة و4 متقاعدين) حقائب وزارية مهمة مثل التموين والزراعة والصيد. إضافة إلى سيطرتهم على قناة تلفزيونية ومصر ومصنع لتجميع السيارات وغيرها، كما أسست الحكومة شركة للمناجم والنفط، ستقوم بالمهام التى تقوم بها شركة النفط العامة، ما يعطى العسكريون سيطرة كبيرة على أهم قطاع اقتصادى فى البلاد. وتنتقد المعارضة تعيين عسكريين فى الحكومة، لأن هذا يسهم فى "تسييسهم"، وقال هنرى راموس آلوب رئيس البرلمان "أسوأ خطأ ارتكبه تشافيز كان إخراج العسكريين من ثكناتهم، من سيعيدهم إليها؟". وكان العشرات الآلاف من الجنود قد شاركوا فى مناورات عسكرية واسعة امر بإجرائها الرئيس الفنزويلى الذى حذر من "تدخل خارجي" فى إشارة الولاياتالمتحدة. وكان مادورو قد أشار فى مؤتمره الصحفى إلى أن رئيس كولومبيا المجاورة الفارو أوروبى دعا إلى واشنطن للتدخل العسكرى فى فنزويلا، وهو ما اعتبره مادورو دليلا على وجود مؤمراة دولية على بلاده. وكانت هيومان رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان وأربعة من رؤساء كولومبيا السابقين قد دعوا أعضاء منظمة الدول الأمريكية إلى "اتخاذ موقف حازم" حول الأزمة فى فنزويلا. ومن ناحيتها اعتبرت المعارضة أن هذه المناورات هدفها "قيادة البلاد عبر الخوف"، حيث قال معلق سياسى مؤيد للمعارضة هو بينينيو الأركون "الحكومة ترير عمليات انتشار واسعة لتحمل الناس على الخوف"، وبالتالى الالتفاف حولها فى مواجهة المعارضة. فى الوقت نفسه، بدأت فى العاصمة كاراكاس وساطة دولية بين الفرقاء، حيث يوجد حاليا رئيس وزراء إسبانيا السابق خوسيه لويس رودريجيز ثاباتيرو فى فنزويلا بتكليف من اتحاد دول أمريكاالجنوبية (اوناسور). وقال ثاباتيرو الاشتراكى إن الطرفين عبرا عن رغبتهما فى اللقاء وتبادل الآراء،معتبرة عملية التوافق ستكون "صعبة وطويلة ومعقدة، لكنها الطريق الوحيد التى يجب أن تسلكه البلاد من أجل علاج المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والدستورية والتعايش السلمى والحريات". كما دعت كل من تشيلى والأرجنتين والأوروجواى إلى "حوار سياسى عاجل" لانهاء الأزمة فى البلاد. إزاء هذا الوضع السياسى المتوتر، يبدو أن فنزويلا تقف وحيدة فى مواجهة عدوها اللدود الولاياتالمتحدة التى تناصب نظامها العداء. فخلال هذا العام فقط، قام الرئيس الأمريكى باراك أوباما بزيارة تاريخية لكوبا، ليطوى صفحة خلافات استمرت منذ نجاح الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو 1959. وبعدها بشهور قليلة فاز اليمين فى الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية التى سيطرت عليها عائلة كيرشنير (نيستور وزوجته كريستينا) الاشتراكية (2001 – 2015). لكن الضربة الكبيرة بالنسبة لفنزويلا كان تصويت البرلمان البرازيلى لعزل الرئيسة الاشراكية وزعيمة حزب العمال ديلما روسيف، واتهام سلفها لولا دا سيلفا بالفساد، فى خطوة لتشويه العهد اليسارى فى البلاد وطمس انجازاته الكبيرة فى محاربة الفقر والنهوض بالاقتصاد الوطني. ولم يبق من القادة اليساريون سوى إيفو ماراليس فى بوليفيا التى سينتهى حكمه فى 2020 بعد أن خسر استفتاء كان يهدف للسماح له بالترشح لفترة رئاسية رابعة. وفى الأكوادور لا يزال أمام الرئيس رافييل كوريا متسع من الوقت، لكنه لن يكون يساريا بقدر ما كان منذ توليه الحكم فى 2007، حيث إنه متهم بأنه قد غير توجهه بعدما لمس تراجع التجربة اليسارية فى القارة اللاتينية.
انقلاب 2002
منذ توليه السلطة عبر انتخابات ديمقراطية 1998، سعى اليمين الفنزويلى المدعوم أو الموالى للولايات المتحدة للإطاحة بالضابط اليسارى هوجو تشافيز. حاول تشافيز فى 1992 الانقلاب على الحكم حينها، لكنه فشل وسجن لعامين زادت فيهما شعبيته، ليخرج ويقود المعارضة اليسارية فى البلاد. انتهج تشافيز سياسة اجتماعية تهدف لتحسين حياة الفقراء فى البلد الأكبر إنتاجا للنفط فى أمريكاالجنوبية، فيما يعيش غالبية شعبه فى بؤس. فى يناير 2002 بدأت اللجان البوليفارية الشعبية عملها، وهى تنظيمات فى الأحياء والقرى عملت على التوعية السياسية والاجتماعية والعمل على حل بعض المشكلات البسيطة، إضافة للدعاية للحكومة. فى فبراير من نفس العام أعلن تشافيز سياسة نفطية جديدة، حددت للفقراء نصيبا من إيرادات البترول. لكن فى مطلع إبريل حذر قائد عسكرى تشافيز من المضى قدما فى سياسته الاجتماعية التى لم تكن محل رضا من النخبة السابقة. فى اليوم التالى دعت المعارضة لمسيرة إلى شركة النفط العامة، فيما نظم أنصار تشافيز تجمعا عند القصر الجمهورى لدعم الرئيس. بشكل غامض دعت المعارضة أنصارها للتوجه للقصر الجمهوري، وهو ما حمل شبهة رغبة فى المواجهة وتحميل تشافيز مسئولية الضحايا. تواجه الفريقان، رغم محاولات الجيش الفصل بينهما، بدأ إطلاق نار لم يعرف فى حينها مصدره، وسقط العشرات من القتلى والجرحى بعد أن تبادل إطلاق نار بين الطرفين. على الفور أعلنت قيادة القوات البحرية تمردها وعدم اعترافها بشرعية تشافيز. استخدمت المعارضة أنصارها فى الجيش بعد هذه التصريحات من قيادات عسكرية، وهاجمت القصر الجمهورى فى 11 إبريل 2002. اعتقل تشافيز عقب رفضه التوقيع على قرار استقالته، واقتيد لجهة مجهولة، وقطع البث عن القناة الحكومية الوحيدة، فيما بقيت القنوات الخاصة التى يسيطر عليها اليمين فى بث دعايتها. فى تلك الأثناء شاع أن "الجيش مؤيد للانقلاب على تشافيز" وهو مصدره القنوات الخاصة. على الفور خرج متحدث باسم البيت الأبيض ليقول إن حكم تشافيز افتقد للشعبية. وبثت شبكات أمريكية تقارير تفيد أن الإضرابات العمالية انتهت، والآمال معقودة على الحكومة الجديدة فى ضمان استعادة قوة الصناعة النفطية، وأن الأوضاع تعود للهدوء بسرعة. فى اليوم التالي، أعلنت المعارضة الانقلابية تشكيل حكومة برئاسة بيدرو كارمونا، وحلت البرلمان وعزلت النائب العام وقضاة المحكمة العليا. لكن لم تجر الأمور كما اشتهت المعارضة، فخرجت المظاهرات من أنصار تشافيز، فى 13 إبريل، وحاصرت القصر الجمهوري. يعتقد كثيرون أن اللجان البوليفارية كان لها دور فى تنظيم تمرد ضد الانقلاب. وبدأت الأخبار تتغير، وعرف العالم أن تشافيز لم يستقل، وأنه معتقل فى مكان مجهول، وأن الجيش لم يكن مؤيدا للانقلاب، وأن أنصار تشافيز محتشدون فى كاراكاس وغيرها من المدن الرئيسية. بمثل ما استخدمت المعارضة عناصر فى الجيش، تحرك ضباط موالون لتشافيز من الحرس الجمهوري، وأحاطوا بالقصر لينفذوا انقلابا مضادا لإعادة تشافيز للسلطة. اعتقل كل أعضاء الحكومة وهرب كارمونا. استغرقت العملية يوما كاملا، استعدت قيادة الحرس الجمهورى حكومة تشافيز لتولى مهامها، وتلقت اتصالا من جندى موال كشف عن مكان الرئيس. على الفور أدى نائب تشافيز اليمين أمام رئيس البرلمان ليصبح رئيسا مؤقتا للبلاد حتى عودة الزعيم المعتقل. أمر الرئيس المؤقت جوزيل كابيجو بعملية للقوات الخاصة لإعادة وتحرير تشافيز، لم تجر العملية فقد استسلم المعارضون. عاد تشافيز منتصرا إلى منصبه الذى ظل فيها عبر إعادة انتخابه ثلاث مرات، وينتصر فى عدة استفتاءات لتعديل الدستور، كما فاز حزبه بجميع الانتخابات البرلمانية وحكومات الأقاليم وعمد المدن. فمن ضمن 19 اقتراعا تراوحت بين الرئاسيات والمحليات والبرلمان فاز البوليفاريون 18 مرة. مع وفاة تشافيز، تولى نائبه نيكولا مادورو الحكم، لكن هذه المرة اختلفت الظروف مع تدهور الوضع الاقتصادي، وهو ما سيصعب خروج الجماهير لتأييده كما فعلت فى 2002 مع تشافيز.