كانت رسالة مصر واضحة، فى القمّة العربية الأخيرة فى بغداد، ومُعبرة عن موقفها الراسخ والتزامها التاريخى تجاه القضية الفلسطينية؛ بأن «قضية السلام والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، مرهونة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة». غير أن البُعد القوى فى تلك الرسالة، ما تحدّث به الرئيس عبدالفتاح السيسي، فى كلمته التاريخية؛ بأنه «حتى لو نجحت إسرائيل، فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية؛ فإن السلام الدائم والشامل فى الشرق الأوسط، سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية».
ولا يمكن النظر لهذه الرسالة؛ باعتبارها موجّهة فقط لحكومة الاحتلال الإسرائيلى؛ وإنما تمتد وجهتها إلى أطراف إقليمية ودولية، لا سيما الولاياتالمتحدةالأمريكية، ذلك أن قمّة بغداد تزامنت مع زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب؛ للمنطقة، التى شملت ثلاث دول خليجية، ودعا فيها إلى «التوسع فى توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية» مع إسرائيل. وينطوى التقدير المصرى؛ لعملية السلام بالمنطقة، على مجموعة من المحدّدات والأبعاد المهمة، التى تتسق مع رؤية السلام العربية، ومع موقفها الصلب، الهادف دائمًا لمَنح الشعب الفلسطينى حقه فى تقرير مصيره، وإعلان دولته المستقلة، عبر حلول سليمة عادلة وشاملة، ويستند فى الوقت نفسه؛ إلى خبرات طويلة فى التعامل مع الصراع «العربى- الإسرائيلى». العودة لأصل القضية والمعنَى فى حديث الرئيس السيسي، عن الغاية الإسرائيلية من التطبيع؛ بأن ذلك لن يجلب إلى الاحتلال الإسرائيلى، الأمن والاستقرار، ما دامت لا تزال تمارس جرائمها بحق الشعب الفلسطينى، بممارسات القتل والتدمير، وطمس وجوده، ودفعه للتهجير القسرى. لذلك؛ يمكن تفسير حالة التفاعل السياسى والشعبى، مع رسالة مصر فى قمّة بغداد، كونها تعيد تشخيص الأزمة، على أساس أصل القضية، وباعتبار أن مفتاح الحل للصراع القائم، هو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين التاريخية، وحقهم فى إقامة دولة خاصة بهم. والواقع أن تأكيدات مصر الواضحة بأن التسوية العادلة والشاملة للقضية الفلسطينية، هى الطريق الصحيح والوحيد المؤدى للسلام والاستقرار فى المنطقة العربية والشرق أوسطية، ليست جديدة ولا مستحدثة أو طارئة؛ بل هو موقف راسخ، تدعو إليه باستمرار، ضِمْن رؤية ثابتة، تدعو إلى إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، على خطوط الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها «القدسالشرقية»، باعتبار أن ذلك السبيل الأوحد؛ للخروج من دوامة العنف، التى لا تزال تعصف بالمنطقة، مهددة استقرار شعوبها كافة. مبادرات سلام لا تصمد ويستند التقدير المصرى، لمفهوم السلام فى المنطقة، إلى واقع الممارسة العملية، من جانب الاحتلال الإسرائيلى، مع مبادرات وأطروحات السلام، التى قُدّمت على مدار سنوات الصراع «العربى- الإسرائيلى»، ذلك أنها لم تصمد أمام الممارسات الإسرائيلية والعدوانية ليس فقط تجاه الشعب الفلسطينى؛ وإنما لدول عربية أخرى، مثل لبنان وسوريا. فواقع الأمر؛ أن إسرائيل، لم تتعاطَ إيجابيًا مع جهود السلام الدولية، بإرادة تعكس حرصها على استقرار وسلام المنطقة، والشواهد هنا كثيرة، بداية من مؤتمر مدريد للسلام، الذى عقد فى نوفمبر 1991؛ بهدف إحياء مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل، ورغم انعقاد عدة جولات للمؤتمر برعاية أمريكية؛ فإن مسار «مدريد»، انتهى دون أن يحقق أى تقدُّم يُذكر، أمام سياسة التعنت الإسرائيلى، ورفضها لأى تنازلات. ولم يختلف الأمر، فى اتفاقية «أوسلو» مع الفلسطينيين، عام 1993، التى شملت بنود اعتراف منظمة التحرير بدولة إسرائيل، فى مقابل اعتراف تل أبيب بالمنظمة، كمُمَثل للشعب الفلسطينى، إلى جانب ترتيبات أمنية وسياسية بين الجانبين، غير أن الجانب الإسرائيلى تنصّل من التزاماته، ومارَس عدوانه على الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربيةوغزة. وينسحب السلوك الإسرائيلى أيضًا، برفضه التام للمبادرة العربية، التى أقرتها الجامعة العربية فى بيروت عام 2002، وتنصل على مشروع حل الدولتين، بإقامة دولة فلسطين المستقلة، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدسالشرقية، إلى جانب الانسحاب من جميع الأراضى العربية المحتلة. وربما هذا ما يُفسّر خروقات الجانب الإسرائيلى، لاتفاقيات الهدنة ووقف إطلاق النار التى صاحبت دورات الصراع «الفلسطينى- الإسرائيلى»، وآخرها العدوان الحالى على قطاع غزة، وتمسُّكها بنهج العنف والتصعيد، دون النظر لأى مواثيق واتفاقيات دولية. سياق انعقاد قمّة بغداد ومن النقاط المهمة التى يجب وضعها فى الحسبان، عند النظر للرسالة المصرية فى قمّة بغداد، بشأن السلام العادل والشامل، هى سياق انعقاد القمّة إقليميًا ودوليًا، ذلك أن اجتماع القمّة العربية فى العراق، جاء بعد زيارة الرئيس الأمريكى، إلى السعودية وقطر والإمارات، التى عكست اتجاهًا أمريكيًا لتوسيع إطار التطبيع العربى مع إسرائيل. وما يدلل على ذلك؛ إفادة البيت الأبيض، عن لقاء الرئيس ترامب، مع الرئيس السورى أحمد الشرع، بأن الرئيس الأمريكى، دعا الأخير، إلى «توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية» مع إسرائيل. وإذا كان التفكير الأمريكى والإسرائيلى، يرى أن فى تطبيع العلاقات مع الدول العربية، يضمن الأمْنَ لتل أبيب، ويضعف الحق الفلسطينى فى دولة مستقلة؛ فإن واقع التجربة فى فترة إدارة ترامب الأولى (يناير 2017 حتى يناير 2021)، لم يفِد، ولم يحقق غاية الاستقرار فى المنطقة. فعندما جرى توقيع اتفاقيات «السلام الإبراهيمى»، مع أربع دول عربية، لم يعكس دفئًا فى العلاقات أو ترحيبًا شعبيًا، ولم يلغِ دائرة الصراع بالمنطقة؛ بل زادت حدة العنف الإقليمى، ما بين الفصائل المسلحة الفلسطينية وإسرائيل، وأيضًا فى المنطقة، كما هو الحال فى الحرب السودنية، التى دخلت عامها الثالث. مصر وصناعة السلام وإذا نظرنا فى هذا السياق، لواقع اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل، فرغم ما تمثله من نموذج يُحتذى به فى مسار السلام بالمنطقة؛ فإنها لم تؤثر على صلابة وقوة الموقف المصرى الداعم للقضية الفلسطينية، للدرجة التى تقف فيها القاهرة، حَجَر عثر أمام أى مخططات إسرائيلية لتصفية القضية، وطمس الحق الفلسطينى. صحيح أن اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل، جاءت ترجمة لخيار مصرى استراتيجى، بالسَّيْر فى اتجاه السلام بعد انتصار أكتوبر 1973 العظيم؛ لكن ما عزّز صمود تلك الاتفاقية على مدار نحو 47 عامًا؛ أنها تنطلق من «سلام القوة»، الذى حققت به الدولة المصرية أهدافها، باسترداد كامل ترابها الوطنى من الاحتلال الإسرائيلى. ولا تنتقص تلك الاتفاقية، من السيادة المصرية، وقدرة مصر فى الدفاع عن أمنها القومى، إلى جانب موقفها التاريخى والراسخ الداعم للقضية الفلسطينية، فهذه جوانب ليست محل مزايدة، وتؤكدها مواقف مصر المختلفة فى تقديم «الملف الفلسطينى» كأولوية لدَى سياسة مصر الخارجية. كما أن الموقف المصرى من قضية فلسطين؛ لم يكن فى أى مرحلة يخضع لحسابات مَصالح، ولم يكن أبدًا ورقة لمساومات إقليمية أو دولية، لذلك لم يتأثر ارتباط مصر العضوى بقضية فلسطين بتغيير النظم والسياسات المصرية، ذلك أنه قائم على مَنح الشعب الفلسطينى حقوقه التاريخية فى دولته المستقلة. وخير دليل على ذلك؛ صلابة الموقف المصرى، أمام العدوان الحالى على قطاع غزة، وثبات محدّداته التى طالما تحدّث بها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وكان آخرها، تأكيداته خلال زيارته الأخيرة لليونان، على أن «حقوق الشعب الفلسطينى لن تسقط بالتقادم، أو بمحاولات تجزئة الأرض الفلسطينية»، مع التشديد على ضرورة «التسوية العادلة والشاملة للقضية الفلسطينية». السلام رؤية مصرية راسخة الإيمان المصرى، بقضية السلام العادل والشامل، تؤكد عليه القاهرة قولًا وتطبقه فعلًا، وتسعى إلى تحقيقه دومًا، والواقع أن دعوة مصر للسلام الشامل، لم ترتبط بتطورات العدوان الحالى فقط؛ وإنما كثيرًا ما طرحت القاهرة مبادرات وقدّمت نداءات بهدف تحقيق الاستقرار الإقليمى. أذكر فى هذا الإطار؛ دعوة الرئيس السيسي فى مايو 2016، على هامش افتتاح مشروعات جديدة فى محافظة أسيوط، حينما وجَّه دعوة للفلسطينيين والإسرائيليين ب«فتح صفحة جديدة فى المنطقة، بتحقيق السلام، القائم على حل الدولتين، يحقق الأمل للجانبين». وقتها لم تكن هناك مواجهات عنف بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، ولكن طرح الرئيس السيسي المبادرة، من منطلق استثمار ظرف التوقيت، وظروف المنطقة والأوضاع الإقليمية؛ «لتنفيذ السلام»، مع الاستفادة من التجربة المصرية فى هذا الصّدَد، وأشار إلى أنه «إذا توافرت الإرادة؛ يمكن تحقيق السلام». ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية بعد عملية طوفان الأقصى، بادرت مصر، باستضافة مؤتمر القاهرة للسلام فى أكتوبر 2023؛ بهدف دفع جهود تسوية الصراع، وواصلت جهودها، رغم تعقيدات الموقف، وتباين المواقف الدولية والإقليمية. مواقف تاريخية وبالعودة لحالة التفاعل الشعبى، مع رسالة الرئيس عبدالفتاح السيسي فى قمّة بغداد، فهذا لا يمكن فصله عن حالة التقدير السياسى الشعبى، لمواقف الدولة المصرية، تجاه العدوان الإسرائيلى الحالى على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023، ذلك أن تلك المواقف تؤكد دومًا، على التزام القاهرة التاريخى فى الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى، فى دولة مستقلة. والواقع أن التعاطى المصرى قوى، مع الاعتداءات التى تلت عملية «طوفان الأقصى»؛ كان قائمًا على تقدير يضع على رأس أولوياته الحفاظ على القضية الفلسطينية من أى محاولات للتصفية، ورفع المعاناة عن الفلسطينيين. ونبدو صلابة الموقف المصرى، فى الدفاع عن القضية فى مجموعة من المواقف الثابتة التالية: 1 - رفض تصفية القضية الفلسطينية: منذ اليوم الأول؛ للعدوان الإسرائيلى على غزة، كان تقدير الموقف المصرى، يرى أن هدف الاحتلال الإسرائيلى، من عمليات القصف والتدمير، يتجاوز مسألة رد الفعل على عملية «طوفان الأقصى» التى قامت بها المقاومة الفلسطينية، ليمتد إلى ممارسات تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، عبر تهجير الفلسطينيين خارج القطاع. ومع مرور الوقت، أثبتت الجرائم الممنهجة والممارسات الوحشية من الاحتلال الإسرائيلى، غايتها فى طمْس الوجود الفلسطينى فى غزة، بعد أن تعرّض القطاع لعملية تدمير واسعة؛ لجعله غير قابل للحياة، وبما يدفع سكانه للتهجير ومغادرته قسرًا أو تحت أهوال الحرب. 2 - التصدى لدعوات التهجير: وعندما تعالت الأصوات الإسرائيلية المتطرفة؛ لتهجير الفلسطينيين، مدعومة بدعوات مماثلة من الرئيس الأمريكى، كان الموقف المصرى والعربى، واضحًا وحاسمًا من مسألة التهجير، ولا يخفى على أحد الحوافز الغربية والدولية التى تطرح للموافقة على هذا المخطط، غير أن الموقف المصرى، عبّر عنه الرئيس السيسي فى شهر يناير الماضى، حينما أكد بوضوح على أن «ترحيل وتهجير الشعب الفلسطينى ظلم لا يمكن أن نشارك فيه». ودعّمت مصر موقفها، بتحركات دبلوماسية عديدة، واتصالات مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية؛ دفاعًا عن الحق الفلسطينى، فلا نجد مناسبة دولية أو إقليمية، إلاّ وتسجل فيها مصر موقفها بوضوح برفض عمليات التهجير، ودعم حقوق الشعب الفلسطينى. 3 - الدعم الإغاثى والإنسانى: وإلى جانب المواقف السياسية والجهود الدبلوماسية يأتى الدور الإنسانى والإغاثى، الذى تتصدر فيه مصر الجهود الدولية على مدى نحو عام ونصف العام؛ حيث استطاعت القاهرة أن تفرض إرادتها فى بداية العدوان، بحشد الجهود الدولية، للسماح بنفاذ المساعدات الإنسانية لداخل القطاع، وتنوعت صور وأشكال الدعم الإنسانى، لتصل نسبة المساهمات المصرية لأكثر من 70 بالمائة من المساعدات. وأمام سياسة وسلاح التجويع والحرمان الذى يتخذه الاحتلال الإسرائيلى مع الفلسطينيين؛ تواصل مصر جهودها أيضًا لاستئناف عمليات الإغاثة الإنسانية، المتوقفة منذ شهر مارس الماضى، والدفع بجهود عمليات التعافى المبكر وإعادة الإعمار؛ لضمان بقاء الفلسطينيين على أرضهم. الدور المصرى كوسيط فى الوقت نفسه؛ حافظت مصر على دورها كوسيط مؤثر فى جهود الوساطة الدولية الهادفة لوقف العدوان على غزة، مع قطروالولاياتالمتحدةالأمريكية، وهى مساعٍ تعزز رسالتها الداعية للسلام. وخاضت القاهرة مع الوسطاء الدوليين، جهودًا مضنية؛ للحد من التصعيد فى المنطقة، ورغم أن تلك الجهود لم تسفر سوى عن فترتيّ هدنة، الأولى فى نوفمبر 2023، والثانية كانت فى 19 يناير الماضى؛ فإنها تواصل تلك الجهود، لاستكمال مراحل اتفاق وقف إطلاق النار، وتسليم المحتجزين والأسرَى. وتتحلى مصر بسياسة الصبر الاستراتيجى فى مسار الوساطة، فى ظل تعقيدات وتعنت إسرائيلى، وانقسام فى المواقف الدولية والإقليمية، وحالة عدم اليقين، أملًا فى وضع حد للتصعيد الذى تشهده المنطقة. 1 2