في حضارات العالم القديم، لم يكن فن البناء مجرد وسيلة لتشييد المساكن والمعابد، بل كان تجليًا حقيقيًا للفكر الإنساني وقدرته على التعامل مع الموارد المتاحة بذكاء. ومن بين أبرز المواد التي استخدمها المصري القديم في فنون المعمار، يأتي الطوب اللبن كعنصر أساسي ساهم في تشكيل هوية مصر المعمارية والروحية لآلاف السنين. واليوم، تتجدد الحكاية في محافظة أسيوط، حيث كشفت البعثة الأثرية المصرية عن مبنى من الطوب اللبن يعود إلى ما بين القرنين السادس والسابع الميلادي، يحمل في طياته شواهد فنية ودينية تضيء جانبًا مهمًا من التاريخ القبطي في مصر. اقرأ أيضاً| مصادر: 600 مليون دولار يحتاجها المتحف المصري الكبير ليرى النور في هذا التقرير، نغوص معًا في تاريخ الطوب اللبن، وكيف استخدمه المصري القديم ببراعة، ثم ننتقل إلى التفاصيل المثيرة للكشف الأثري الجديد بمنطقة منقباد. أولًا: الطوب اللبن... عبقرية البناء في مصر القديمة ** ما هو الطوب اللبن؟ الطوب اللبن هو طوب غير محروق يُصنع من مزيج من الطين والرمل والماء مع القليل من القش أو التبن، ثم يُترك ليجف في الشمس. وقد كان هذا النوع من الطوب هو المادة الأساسية لبناء المساكن والأسوار والمنشآت غير الدينية في مصر القديمة، بينما خُصص الحجر للمعابد والمقابر الملكية فقط. ** لماذا اختار المصري القديم الطوب اللبن؟ توفر الخامات: الطين والرمل والماء مواد متوفرة بكثرة على ضفاف النيل. سهولة التشكيل: يمكن تشكيل الطوب بسهولة دون الحاجة إلى أدوات معقدة. العزل الحراري: يتمتع الطوب اللبن بقدرة عالية على الحفاظ على درجات حرارة معتدلة داخل المباني، مما يلائم طبيعة المناخ المصري الحار. السرعة في البناء: يمكن إنتاج كميات كبيرة منه بسرعة واستخدامه بعد تجفيفه بوقت قصير. ** دلالات الطوب اللبن في العمارة المصرية منازل الطبقات الشعبية والنبلاء: معظم مساكن العامة والطبقة الوسطى بُنيت من الطوب اللبن، بينما استخدمه النبلاء أيضًا في القصور التي لم تكن مخصصة للعبادة. مقار الإدارة والمخازن: اعتمدت الدولة المصرية على الطوب اللبن في بناء منشآت اقتصادية وإدارية كالمخازن وصوامع الغلال. العمارة الدينية المبكرة: استخدم في الكنائس البسيطة والقلايات الصحراوية، كما يشير الكشف الأخير. ** آثار الطوب اللبن الباقية حتى اليوم رغم هشاشة هذه المادة مقارنة بالحجر، إلا أن العديد من المباني من الطوب اللبن ما تزال قائمة جزئيًا بعد آلاف السنين، خاصة في المناطق الجافة، ما يدل على جودة التصنيع ومهارة البناء. ثانيًا: الفن القبطي والطوب اللبن في ظل انتشار المسيحية في مصر في القرون الأولى الميلادية، وخصوصًا بعد القرن الرابع الميلادي، شهدت البلاد تحولًا كبيرًا في الفكر المعماري، حيث بدأت الأديرة والقلايات تنتشر في الصحراء، غالبًا ما كانت تُبنى من الطوب اللبن نظرًا لبساطتها ورمزيتها الروحية. ** الطوب اللبن في الفن القبطي الزهد والبساطة: ارتبطت القلايات والمباني الدينية في الفن القبطي بفكرة البساطة والبعد عن مظاهر الترف، وهو ما وفره الطوب اللبن كخامة متواضعة وفعالة. الزخارف الجدارية: رغم بساطة البناء، زُينت الجدران الداخلية بلوحات فنية ذات رمزية روحية عميقة. دمج النص والرسم: امتاز الفن القبطي بمزج النصوص الدينية المكتوبة بالحروف القبطية مع الرسوم البسيطة ذات الأبعاد الرمزية. ثالثًا: الكشف الأثري الجديد في منقباد – أسيوط ** موقع الاكتشاف يقع الموقع في قرية منقباد شمال غرب مدينة أسيوط، على بعد حوالي 12 كم منها، وحوالي 22 كم من مطار أسيوط الدولي. تُعد هذه المنطقة ذات أهمية أثرية وتاريخية كبيرة، حيث بدأت أعمال الحفائر فيها منذ عام 1965 وتواصلت على فترات. ** تفاصيل الكشف أعلنت وزارة السياحة والآثار، في ضوء توجيهات الوزير شريف فتحي، عن اكتشاف مبنى أثري من الطوب اللبن يعود إلى الفترة ما بين القرنين السادس والسابع الميلادي، وهو عصر انتقال دقيق في مصر، حيث كانت البلاد تحت تأثير الثقافة القبطية المسيحية في أوج قوتها. ** الوصف المعماري للمبنى الطابق العلوي: يتكون من ثلاث صالات متوازية تليها غرفتان. الطابق السفلي: يحتضن ثلاث قلايات متوازية، وغرفتين للمعيشة. التفاصيل الفنية: الجدران مغطاة بطبقة من الملاط الأبيض، ما يدل على جودة عالية في التشطيب. ** اللقى الأثرية المكتشفة * جداريات ذات رمزية قبطية: جدارية العيون والوجه: ترمز إلى البصيرة الروحية واليقظة الدينية. جدارية يوسف النجار والسيد المسيح: يظهر فيها يوسف النجار حاملًا الطفل يسوع، محاطًا بالتلاميذ ونصوص قبطية. * لقى فخارية وأثرية: أنفورات متعددة الأحجام عليها كتابات قبطية. إفريز حجري بزخارف لحيوانات مثل الأسد والغزال. شاهد قبر لأحد القديسين، يحمل نصًا يوضح اسمه وتاريخ وفاته. ** أهمية الكشف أثريًا: يُمثل المبنى نموذجًا فريدًا لعمارة القلايات القبطية، ويعكس جانبًا مهمًا من الحياة الرهبانية في صعيد مصر. فنيًا: الجداريات المكتشفة تضيف بعدًا بصريًا وروحيًا لفهم رمزية الفن القبطي في تلك الفترة. ثقافيًا: يبرز الكشف دور منطقة منقباد كمركز روحي ومعماري في العصور المسيحية المبكرة. ** تصريحات المسؤولين * د. محمد إسماعيل خالد: أوضح أن المبنى المكتشف يثري المعرفة بفن العمارة القبطية ويدل على عمق الحياة الروحية. * د. جمال مصطفى: وصف التكوين المعماري بأنه بالغ الأهمية، خاصة مع وجود القلايات والغرف المعيشية. * محمود محمد: أكد استمرار أعمال الحفائر وتحليل الجداريات للوصول إلى معلومات أدق. رابعًا: منقباد... بوابة الصعيد إلى التاريخ ** نبذة عن المنطقة موقع استراتيجي على الطريق السريع. تُعد منقباد منطقة زاخرة بالآثار، وقد احتضنت بعثات أثرية متعددة منذ سبعينيات القرن العشرين. ** تاريخ الحفائر في منقباد بدأت عام 1965 توقفت واستؤنفت على فترات حتى 2010 موسم الحفائر الحالي 2024 كشف هذا المبنى الهام خامسًا: مستقبل البحث والحماية أعمال ترميم محتملة: من المتوقع أن تبدأ أعمال ترميم للجداريات فور انتهاء الدراسات. إنشاء مركز توثيق: يُدرس حاليًا تخصيص جزء من الموقع كمركز عرض وتفسير للزوار والباحثين. ** التوصيات: زيادة الدعم للبعثات المحلية. توسيع الحفائر لاستكشاف مزيد من الأبنية المجاورة. استخدام التكنولوجيا في توثيق التفاصيل المعمارية والفنية. تُعيدنا قصة الطوب اللبن في مصر القديمة إلى جذور عبقرية الإنسان المصري، الذي تعامل مع ما بين يديه من خامات فحوّلها إلى منشآت خالدة. أما الكشف الجديد في منقباد، فلا يُعد مجرد اكتشاف أثري، بل هو استرجاع لصوت الصمت، وحكاية منسية عن رجال عاشوا حياة الزهد والتأمل، وتركوا وراءهم جدرانًا تنطق بحكمة الروح وعين البصيرة. وما يزال في باطن الأرض ما ينتظر أن يُروى.