هيثم نوري وهو نفس الألم والمشاعر برغم اختلاف تفاصيل القصص، ذات المعركة في كل مكان كأنها نسخ كربونية، المسار واحد، ومن المرجح أن تكون النهايات متشابهة، لأن الجريمة واحدة هي ختان الإناث. أصوات سهير المصرية وإنعام السودانية وبيهان الكردية العراقية، ترن في فضاءات المجتمعات الثلاثة تقض نوم الجميع مسئولين ونشطاء وحتى عائلاتهن. الشفرة الحادة والرماد، هو كل ما تحتاج إليه القابلة التقليدية (الداية المصرية السودانية، والختانة الكردية) لترتكب جريمة تحتفل بها المجتمع.
لن يختلف كثيرا مصير الفتيات إذا أجري جريمة الختان طبيب أو ممرض، أو حتي حلاق صحة كما في الأرياف، فجميع حالات الختان المصرية التي توفيت خلالها الفتيات كن في «عيادات أطباء». في العاصمة السودانية الخرطوم تطالعك صورتي الطفلتين إجلال وإنعام اللتين صارتا رمزين لحملات مناهضة الختان السودانية، برغم ما بين تاريخ وفاة الطفلتين من تباعد. الأولى إجلال التي توفيت على يد قابلة شعبية (داية) في 1980، عندما كان الختان الأشد قسوة مجرما (في السودان ثلاثة أنواع من الختان أقساها الفرعوني، وأخفها ما يطلقون عليها السنة في محاولة لإضفاء غطاء دينى عليه). ولا تزال إلهام لا تتمالك نفسها عند الحديث عن شقيقتها الصغرى التي توفيت وهي بنت ست سنوات. «نزفت إجلال حتى الموت، خاف الجميع، نقلها والدي وأحد أعمامي للمستشفى، لكن لم يستطع الطبيب فعل شىء سوي صراخ في وجه أبي»، تقول إلهام. وتتابع «لم أفهم وقتها ما حدث إلا بعد عودة والدي من المستشفى، كنت حينها في التاسعة، كل أخواتي خضعن للختان الفرعوني». بحسب إحصاءات منظمة اليونيسيف أغلب القبائل السودانية تختار النوع الأقسى من الختان (82٪ من النساء تعرضن للختان الفرعوني)، بينما تختار المجتمعات المسيحية ما يسمي ختان السنة، في مفارقة تنزع عن الجريمة هذه التسمية الشريفة الدينية. ترفض ناهد جبر الله مدير مركز سيما للتدريب وحماية حقوق المرأة والطفل في السودان كل أنواع الختان، وتطالب بإدراج تجريم الختان في قانون الطفل. برغم كل محاولات المجتمع المدني في السودان القضاء على جريمة الختان، فإن النسب لا تزال مرتفعة، بحسب آخر مسح لليونيسيف فإن ٪88 من نساء السودان ما بين 15 – 49 تعرضن للختان. لكن في السنوات القليلة الماضية كشفت الصحافة السودانية عن عدة وفيات لفتيات كانت أشهرهن قضية إنعام عبد الوهاب ذات الأربعة أعوام، التي كانت ضحية التهاب حاد نتج عن الختان، بحسب تقرير الطبيب الشرعي. تقول والدة إنعام «نادمة على ختان ابنتي، لكن كنت تحت ضغط الجيران وأهل زوجي بل وحتى أهلي». هذه هي نفس الحجج المصرية التي تسوقها الأسر عند ختان بناتهم، تقول إحدي السيدات اللواتي جمعت قصصهن الجمعية القبطية ببني سويف «من كتر خوفي من كلام الناس ختنت نفسي». كانت السيدة «س.ع» الحاصلة على دبلوم فني مخطوبة، عندما أخبرتها صديقاتها أنها يجب أن تجري عملية الختان «عشان جوزها»، بالفعل تقول «دخلت أوضتي ومعايا فتلة ولفتها عليها – البظر – لغاية ما اتقطعت، لكن حصلي نزيف وورم، وأمي خدتني للدكتور». وتتابع السيدة ذات 35 عاما «زعق لي الدكتور، وخطيبي قالي كنت تقول لي وكنت قلت لك لا، أنا عندي دلوقتي ثلاث بنات ومش ختنهم». القصة نفسها لكل الفتيات، تبدأ بخدعة من آلام والخالات والعمات والجدات، وتحضير الطعام الذي تحبه البنت كأنها عملية استدراج. تقول حنان (تحدثت لفريق الجمعية القبطية ببني سويف) «كان عندي 10 سنوات، أمي صحتني بدري وقالت لي قومي استحمي، وعملتي بيض ولبن، وخدتني لعمتي، ولما وصلت لقيت ست سمرا عندها، ولم سألت من ديه، عمتي قالت ديه اللي هتخليكي تكبري وتتجوزي». وأضافت حنان «قلت لا مش عايزة أتجوز، عمتي قالت لازم أنا هجيبلك لحمة وفراخ، وفرحت ويا ريتني ما وافقت، لأن حصلي نزيف وخدوني للدكتور، ولما كبرت واتجوزت، عرفت أن تأخير الخلفة من الختان، عشان كده عمري ما هختن بنتي». نفس القصة تسردها طفلة في الوثائقي الكري «ختانة» حيث تقول الفتاة التي لم تذكر اسمها «جاءت عجوز لقريتنا واختبأنها منها، لأنها جاءت لختاننا». لكن شابة أكبر تقول «لا خيار أمام أحد هنا في إجراء الختان أو عدمه، لأن الفتاة المختتنة تعتبر عفيفة ومتدينة». عندما نسمع صوت هذه الشابة الكردية العراقية خيل أننا ننصت لفتاة مصرية أو سودانية، لكن لكل مجتمع أن يزيد على هذه الحجة بعض الرتوش. تقول بورا سيرا الداية «الختانة الكردية العراقية» التي أجرت 200 عملية ختان حتى «لأمهات أثناء الولادة دون أن يعرفن» أن «الختان من الإسلام، وأن السيدة غير المختتنة، يكون الذى التي تعده نجسا». وتصر هذه الجدة التي ورثت المهنة عن أمهات وجدات «لن أستمع لأحد حتى الرئيسين (جلال) طالباني و(مسعود) برزاني، ولا الملا (تسمية رجل الدين في كردستان) نفسه، لأني مسلمة صالحة». يقول نيز أحمد وشارا أمين مخرجا الفيلم الوثائقي عن الختان في كردستان العراق «قضينا سبع سنوات من 2004 وحتى 2011، لنجد من يجرؤ على الحديث عن هذا الموضوع أمام الكاميرا». تعلق نيهان عز الدين النائبة في برلمان كردستان العراق «في 2008 تقدمنا بمشروع قانون لتجريم الختان، رفضت حتى مناقشته وإدراجه على جدول الأعمال». الفيلم كان صدمة للسلطات السياسية في الإقليم الواقعة في شمال العراق والمتمتع بالحكم الذاتي منذ التسعينيات من القرن العشرين. يشير تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان بعنوان «اقتادوني ولم يقولوا لي شيئا» إن حكومة كردستان العراق تفاجأت بانكشافها أمام العالم بعد أن كانت تروج أنها بلد ليبرالي ومنفتح. حينها كان عليهم التحرك، لتجميل صورتهم أمام العالم الغربي الذي يحتاجون منه المساعدة العسكرية والتأييد السياسي، على الفور أقر قانون مناهضة العنف الأسري الذي يجرم الختان. تقول النائبة البرلمانية نيهان عز الدين «عرض الفيلم في البرلمان ولم يحضر العرض سوى النائبات، وحتى عند مناقشة القانون لم يناقش زملاؤنا الرجال تفاصيل المواد جرى التصويت بالموافقة وفقط». هذه الصورة التي تريد الحكومات والنظم المحافظة عليها هي ما دفع مصر للتحرك ضد جريمة الختان منتصف التسعينيات. كان ذلك بعد مقابلة الرئيس الأسبق حسني مبارك مع قناة سي إن إن التي أنكر فيها وجود الختان في مصر إلا في بعض القرى القليلة، عندها بثت القناة فيديو لعملية ختان في إحدى قرى مصر لفتاة على يد حلاق صحة. كان مبعث غضب النظام هو أن بث الفيديو جاء بالتزامن مع استضافة القاهرة مؤتمر الأسرة والسكان في 1994، عندها بدأت التحرك الحكومي. يومها كانت نسب الختان مرتفعة، فبحسب آخر إحصاءات اليونيسيف كان النسبة في 1985 هي ٪97 بين الفتيات من 15-19، قبل أن تنخفض إلى ٪70 في 2015، لتكون مصر واحدة من بين أكثر خمس الدول سرعة في تقليل نسب ممارسة هذه الجريمة، إلي جانب بوركينا فاسو وكينيا وتوجو وليبيريا. ويضيف تقرير يونيسيف الصادر بالتزامن مع اليوم العالمي لعدم التسامح مع ختان الإناث (فبراير من كل عام) أن نسبة الفتيات (من سن الميلاد وحتى 14 عاما) اللواتي تعرضن للختان خلال سنوات 2010 -2014 لم تزد على ٪14. يبدو أن المصريين لم يكونوا متأثرين بدعاية الإسلاميين الذين سيطروا على المشهد خلال أغلب تلك السنوات. ويصف دكتور عبد الحميد عطية أستاذ طب النساء والولادة في قصر العيني ورئيس الزمالة المصرية الإحصاءات بأنها «تقدم، لأن هذا السن هو آخر عمر للختان». يشير مسح 2014 أن أغلب من أجري لهن الختان كن ما بين 9-10 سنوات (40,9 ٪) و11 -12 (%26,6)، وتنخفض عند سن 15-17 إلى 2.6 ٪ فقط. لكن مع ذلك تظل مصر حالة حرجة، حيث تضم إلى جانب إثيوبيا وإندونيسيا نصف النساء اللواتي تعرض للختان في العالم (تقدرهم اليونيسيف بحوالي 200 مليون سيدة وفتاة). لكن على الرغم من انخفاض نسب الختان بين الفتيات 15- 17 إلى ما دون %61 بحسب المسح الصحي السكاني 2014 مقارنة بنسبة %74 في 2008، فإن نسبة تطبيب الختان مرتفعة للغاية. وتعرف الأممالمتحدة تطبيب الختان بأنه إجراء العملية على يد طواقم طبية (أطباء وممرضين)، وهي نسبة تصل لثلاثة أرباع العمليات (%74). ويعلق دكتور عطية بأن اللجوء للطبيب لم يمنع وفاة عدد من الفتيات أثناء إجراء الختان. بالفعل توفيت أربع فتيات في سن الطفولة أثناء جريمة الختان على يد أطباء، في المنيا 2007 كانت بدور، وفي نفس العام توفيت كريمة في الغربية، 2010 ماتت نرمين في المنوفية، وأخيرا سهير في الدقهلية 2014، أعمارهن جميعا ما بين 12 - 13 عاما. لهذا كان «لا لتطبيب الختان.. رؤية علمية وقانونية» هو شعار مصر في احتفالها باليوم العالمي لعدم التسامح مع الختان» في منتصف فبراير الجاري. لكن في المقابل، يهمس أحد الحاضرين، بأن هذا وضع قد يكون جيدا لأننا حصرنا غالبية الحالات في جهة واحدة، يمكن بعد ذلك أن نواجهها بالتعاون مع نقابة الأطباء وكليات الطب. يشير المستشار وائل شبل محام عام أول نيابات وسط القاهرة، إلى أن الكثير من الأطباء قد لا يعرف الكثير عن لائحة الاخلاقيات الطبية، وطالب بإرسالها مع المواد المجرمة للختان على عنوانيهم البريدية، إضافة إلى تنظيم التبليغ عن العمليات غير القانونية. أما أكبر التطورات فكان إصدار محكمة مصرية حكما بات ونهائيا ضد طبيب (رسلان فضل حلاوة) ارتكب جريمة الختان بحق طفلة ماتت أثناء إجراء الختان لها (سهير الباتع ذات 13 عاما)، إضافة لوالدها. وقضت محكمة المنصورة بحبس الطبيب سنتين وتغريمه 500 جنيه لارتكابه القتل الخطأ، وغلق عيادته (مركز الحرمين للجراحة) عاما واحدا، لكن ما زال رسلان حلاوة هاربا. من ناحيته قال المستشار شبل إن سهير الباتع ليس آخر الأحكام، فهناك قضية جديدة هي الطفلة هاجر هاني، حيث جرت إدانة الداية. وأضاف شبل في حديثه خلال فعاليات اليوم العالمي أن سبب عدم شهرة القضية أن هاجر ما زالت على قيد الحياة، لكنها سابقة قوية لأن العبرة في حكم القضاء ليس وفاة الطفلة بل الفعل في حد ذاته. في مقابل تجريم الختان في مصر 2008، وكردستان العراق 2011، تراجع السودان كثيرا في القانون عن نظرائه، بل عمدت الدولة لاتخاذ خطوات متناقضة بعثت برسائل متناقضة. فبعد أن ألغت القوانين التي وضعها زعيم الحركة الإسلامية السودانية حسن الترابي في 1983 تجريم الختان الفرعوني المنصوص عليه في 1946، أصدر مجمع الفقه الإسلامي الذى يسيطر عليه النظام فتوى بوجوب الختان. من المعروف أن الإسلاميين يحكمون السودان منذ انقلابهم بقيادة الرئيس عمر البشير في 1989. ومع ذلك وللتخفيف من الضغوط الغربية على الخرطوم، أصدرت الحكومة في 2008 إستراتيجية القضاء على جريمة الختان في 2018، لكن لم تتحسن الأوضاع كثيرا حتى الآن، برغم اقتراب تاريخ نهاية هذه الخطة القومية (ما زالت نسبة الختان ٪88 بحسب اليونيسيف). كما أصدرت وزارة الصحة قرارا يقضي بمنع الأطباء السودانيين من إجراء عملية الختان. تفسر ناهد جبر الله هذا المسلك بأنه طبيعي من حكومة تسعى لكسب تأييد أنصارها من المحافظين، وفي نفس الوقت تريد تحسين صورتها بعد عقود من العزلة الدولية. لكن يبدو أن زيادة الوعي أمر حتمي، فقد أعلنت قرية توتقال الكردية مناهضتها للختان، وهو ما حدث في أكثر من قرية مصرية مثل بنبان في أسوان. تقول القابلة القرية الكردية العراقية بدأنا نعرف أنها ممارسة خاطئة، «لدي تليفزيون في البيت، وأشاهده وعرفت من إعلانات وزارة الصحة أنها عادة سيئة وليست من الإسلام». هذا الحديث يتوافق مع الإحصاءات المصرية (مسح للمجلس القومي للسكان – حملة كفاية ختان بنات) التي تشير أن التليفزيون هو المصدر الرئيسي للحصول على المعلومات حول الختان للسيدات المتزوجات من 15-49، بنسبة ٪74، مقابل خطب المساجد ووعظ الكنائس الذي لم يزد على ٪3.