فؤاد قنديل يميل كثير من المحللين السياسيين في الغرب إلى الاعتقاد بأن عبد الناصر طرد اليهود من مصر، واغتصب أموالهم ويبنون على هذا الاعتقاد نتائج أخري كثيرة استثمرها الصهاينة ضد مصر وعبد الناصر، وبالغوا في هذا التصور الذي جعلهم يروجون لفكرة أن عبد الناصر لا يختلف كثيرا عن هتلر. فها هي القصة على نحو دقيق تدعمها الأدلة والأحداث التاريخية؟ قبل تقييم حالة اليهود في مصر بعد ثورة 1952، لابد من إشارات تاريخية مكثفة لحالة اليهود المصريين قبلها، وتبدأ ملامح القصة في التشكل بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، حيث أقبل اليهود من بلاد كثيرة للاستثمار في مصر وتأسيس البنوك، ومحاولة الاستفادة من الحالة الجديدة التي قفزت إليها مصر بصفتها حاضنة لأهم معبر مائي في العالم، وكان البنك العقاري المصري الذي تأسس عام 1880، أول البنوك وأسسته ثلاث عائلات يهودية هي سوارس رولو قطاوي. وقد لعب هذا البنك دورا خطيرا في الاقتصاد الزراعي المصري فنتيجة القروض التي منحها للملاك الزراعيين، أصبح يتحكم في أكثر من مليون فدان من الأرض المصرية الخصبة. كما أسست تلك العائلات بنكين آخرين هما البنك الأهلى والبنك التجاري، بحيث أصبحت كل أشكال التجارة لابد أن تمر من خلال اليهود. وامتدت سيطرة اليهود لمجالات أخرى مهمة مثل قطاع البترول، فقد قام إميلي عدس بتأسيس الشركة المصرية للبترول في بداية العشرينيات، في الوقت الذي احتكر فيه اليهودي «إيزاك ناكامولي» تجارة الورق في مصر. كما اشتهر اليهود بتجارة الأقمشة والملابس والأثاث، حتى إن شارع الحمزاوي والذي كان مركزاً لتجارة الجملة كان معظم تجاره الكبار من اليهود، كذلك جاءت شركات مثل شركة شملا: وهي محلات شهيرة أسسها «كليمان شملا» كفرع لمحلات شملا باريس، وأنشأت عائلة شيكوريل عام 1887، شركة شيكوريل الضخمة، بالإضافة إلى شركة بنتيمورلى للأثاث والديكور التي أسسها هارون وفيكتور كوهين، وسلسلة محلات جاتينيو التي احتكرت تجارة الفحم ومستلزمات السكك الحديدية، وكان لموريس جاتينيو دور كبير في دعم الحركة الصهيونية ومساعدة اليهود على الهجرة إلى فلسطين، وكذلك كانت عائلة "عدس " التي أسست شركات مثل بنزايون ريفولي هانو عمر أفندي. كما احتكر اليهود صناعات أخرى مثل صناعة السكر ومضارب الأرز التي أسسها سلفاتور سلامة عام 1947، وفي مطالع القرن العشرين بدأت نشاطها شركة الملح والصودا التي أسستها عائلة قطاوي عام 1906. كذلك وصلت سيطرة اليهود إلى قطاع الفنادق، فقد أسهمت موصيري في تأسيس شركة فنادق مصر الكبرى، وضمت أهم فنادق مصر في ذلك الوقت مثل فنادق كونتيننتال ميناهاوس سافوي سان ستيفانو. وقد نشط اليهود أيضا في امتلاك الأراضي الزراعية وتأسست شركات مساهمة من عائلات احتكرت بعض الزراعات مثل شركة وادي كوم أمبو،كذلك شركة مساهمة البحيرة التي تأسست عام 1881 وامتلكت 120.000 فدان. وبالإضافة إلى الشركات الكبيرة التي هيمنت على كل ما يدير الحياة في مصر من تجارة وزراعة وصناعة، فقد كان لليهود حضور لافت للنظر في مجال السينما والمسرح والغناء وطبع الإسطوانات وغيرها من الأنشطة ذات الصبغة الفنية الناعمة، وكان وجودهم جميعا وجودا حيا وذا فاعلية مؤثرة في الحياة المصرية التي لم تكن تحكمها دولة بالمعنى المعروف، فالملك في ملاهيه ومشاكله ويكاد يكون بلا سلطات، بينما النخبة السياسية المتمثلة في الأحزاب في حالة شبه دائمة من التناحر، ولم يكن هناك من وجود مالى خارج الطائفة اليهودية إلا لشركات بنك مصر التي أسسها الاقتصادي الوطنى الكبيبر طلعت حرب .. بالإضافة إلى بعض المصانع والإقطاعيات الزراعية التي يعمل عليها عدد من الباشوات مثل عبود باشا وفرغلى باشا و ياسين والبدراوي عاشور وغيرهم، لكن النسبة الأكبر كانت لليهود حتى بدأ القلق يتسلل إلى نفوسهم منذ أوائل الأربعينيات. يقول المؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق (جريدة الشرق الأوسط – 23 يوليو 2002) "على هذا الأساس استطاع اليهود في مصر تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة بلغت أقصاها في الأربعينيات في الوقت الذي كان الاقتصاد العالمي يعاني ركودا نتيجة ظروف الحرب العالمية الثانية، واستطاع يهود مصر أن يصبحوا أغنى طائفة يهودية في الشرق الأوسط، ولم يتأثروا بإلغاء الامتيازات الأجنبية عام 1937 أو انخفاض معدلات الهجرة إلى مصر، أو حتى صدور قانون الشركات رقم 138 والذي صدر في يوليو 1947 لتنظيم الشركات المساهمة، لكن كان قيام إسرائيل عام 1948، واندلاع الحرب بين اليهود والعرب أثره في تقلص نسبى لدور طائفة اليهود في مصر، كما هجر مصر عدد لا بأس به بعد حريق القاهرة يناير 1952، الذي يعتقد الكثيرون بضلوع الإخوان في اقترافه ضد الممتلكات اليهودية، وبعد قيام ثورة يوليو، ازداد الموقف اضطرابا، بعد أن تغيرت موازين القوى بين العائلات اليهودية والسلطة الحاكمة في مصر، فقام معظمهم بتصفية أعماله وأملاكه، وهاجر الكثير منهم إلى أوروبا وأمريكا وإسرائيل." وبعد فضيحة لافون عام 1955.. تلك العملية التي حاول بها الموساد الإسرائيلي إفساد العلاقة بين مصر والدول الأجنبية عن طريق إظهار عجز السلطة عن حماية المنشآت والمصالح الأجنبية. أسرع عدد كبير من اليهود بمغادرة مصر، جرى تهريبهم بأموالهم عن طريق شبكة «جوشين» السرية التي كانت تتولى تهريب اليهود المصريين إلى فرنساإيطاليا ثم إلى إسرائيل..وبقى عدد رحل معظمه بعد إصدار القوانين الاشتراكية عام 1961، في حين أصر الباقي على مصريتهم ووطنهم ولم يغادروها. ومن المهم التأكيد على أن خروج اليهود من مصر بدأ أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد خشي اليهود من انتصار الألمان في الحرب، والقدوم إلى مصر وتكرار مذابح النازي في مصر ففروا إلى جنوب إفريقيا، وبعد قيام دولة إسرائيل والثورة المصرية أصبحت الهجرة أمرا طبيعيا للأسباب التالية: أولا: لأنهم اعتادوا الهجرة ثانيا: لأنهم اعتادوا أن يكونوا سباقين للانتقال إلى كل دولة جديدة كي يبدأوا مشروعاتهم الاقتصادية قبل الآخرين. ثالثا: الحرب مع العرب. رابعا: ثقة اليهود بأنهم لن يستطيعوا التعامل مع الثورة الوطنية التى تحاول إنقاذ المصريين الفقراء من الاستغلال. خامسا: ممارسات الموساد الجهنمية لتشوية صورة القيادة الجديدة. سادسا: قيام بعض اليهود المصريين بأعمال تجسس لصالح إسرائيل وأمريكا. سابعا: شعور اليهود بتصاعد العداء ضدهم بعد عدوان إسرائيل وفرنسا وإنجلترا على مصر. ثامنا: تمصير الشركات والبنوك والمصانع الكبري لصالح الشعب، وكان بعضها وأهمها ملكا لليهود الذين يتحكمون بصورة شبه كاملة في اقتصاديات الدولة. وهكذا تبدو مقولة إن عبد الناصر طرد اليهود من مصر مقولة سقيمة وعارية من الصحة، أو على الأقل يتعين لمن يتصدى لها أن يضعها في الإطار التاريخى وتأسيسا على الأسباب السابق الإشارة إليها، والأهم أن يتنبه الراصد للتجربة الناصرية فيما يمس هذا الموضوع إلى أن تأميم الشركات والممتلكات الكبري مصرية كانت أو أجنبية تم اللجوء إليه بعد امتناع الدول الكبري عن تقديم أية مساعدة لمصر سواء في السد أم في السلاح أم في إنشاء المصانع، في الوقت الذي تعاني فيه من اقتصاد ضعيف بينما طموحات الثورة للنهضة بلا حدود.