ولدت صامتة!! لم أصرخ كثيرا إلا لتأدية واجب افتراض وجودى فى اللحظات الأولى للحياة، ثم أكملتها صامتة، لدرجة أن العديد من المدرسات، خصوصا مدرسات الحضانة والابتدائى، كان مصدر شكواهن منى أننى كائن صامت! هادئ! لم أكن أعلم وقتها أننى أختزن الصمت الفطرى بداخلى لفترات مراهقتى وشبابى وحتى الأمس القريب، الذى أتحول فيه مثل كل المخلوقات إلى كائن مزعج، يتحدث كثيرا، فيخطئ كثيرا، فتنهمر فوق رأسه العقوبات! وتتعطل الحياة فى خلافات عبثية كان يمكن عدم البدء فيها لو كنت التزمت الصمت مثل القرود الصينية الثلاثة الفاقدة لحواسها الخمس، لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم، أو لأننى اعتبرت أننى لم أسمع، وبالتالى لم أحرك ساكنا. بعد أن اتشقلبت حالى، وحاولت إصلاح ما انكسر أو اتعوج أو «ادشدش» من حياتى، وجدت أن معلمى فى «الصوفية الصحفية»! الأستاذ أحمد بهجت، يقدم لى الحل! فهو يرى أن اللغة الوحيدة التى نجت من التطور المفضى إلى الموت هى لغة الصمت! وكيف أن العشاق، ولم أكن واحدة منهم، إلا أننى كنت أتحدث بلغتهم، يعرفون أن لغة الصمت هى اللغة المشتركة بينهم وبين العارف بالله، والاثنان عشاق!
وأن العشاق يعرفون لغة الصمت مثلما يعرفها العارفون بالله، لأنهما عشاق، وإن اختلف موضوع الحب فى الحالتين. تحسست دموعى وأنا أتابع كلمات أحمد بهجت التى تشير إلى مواقف قد تبدو فيها الكلمات مثل اجتراء على جلال المواقف وقداسته حين يقف الإنسان بين يدى الله فى موقف الصلاة أو الدعاء، إنه لا يجد كلمات تعبر عن مشاعره ومن ثم يكتفى بالبكاء، فيتحول هو فى ذاته إلى لغة.
ويرفعنى أحمد بهجت بكلماته حين يشير إلى لغة البكاء، وهى مفردة من مفردات لغة الصمت، وأن الله سبحانه وتعالى يترجم بكاءك إلى لغة لها مفرداتها وكلماتها وقواعدها ويسجلها لنا!! رفعنى لأعلى حتى أهيم شوقا للقاء المحبوب، ولم يتركنى كعادته إلا والبشرى بين يديه حينما يستشهد بالحديث النبوى عن العين التى تبكى من خشية الله، والعين التى تسهر لتحرس فى سبيل الله. تحسست عينى فوجدتها أصبحت لا تنام، فتفحصتها فى المرآة لأراها وقد توردت وتورمت من أثر السهر وهى تحرس الكلمة والموقف، وتتابع فترتفع إلى مصاف من يسهرون للحراسة فى سبيل الله.