الإقامة فى فرنسا وسعت من أفقى الثقافى وعلمتنى الانفتاح على الآخر الرواية تزدهر فى العراق والشعر يجاهد للصمود أمام جحافل الإملاءات الدينية
ترى الروائية العراقية المقيمة فى فرنسا “إنعام كجه جي” أن الرواية تزدهر فى العراق، والشعر يجاهد للصمود أمام جحافل الإملاءات الدينية، وتقول: “كنا فى الشعر التعبوى وصرنا فى الطائفي” وتضيف، أن المهجر أعطاها لغة إضافية حيّة، وأتاح لها إكمال دراستها العليا والاقتراب من مناهل ثقافية ومعرفية غنية ومتعددة، وأن الإقامة فى فرنسا وسعّت من أفقها الثقافى وعلمتها التفتح على الآخر، أى الغريب والمختلف.
ما الهاجس الذى يحرك قلم إنعام كجه جي؟
بعد أكثر من أربعين سنة فى هذه المهنة، يخيّل لى أحيانًا أن قلمى بات يتحرك من تلقاء نفسه. هل للأقلام نفوس؟ لا شك أن قلمى يتألم لأننى هجرته إلى الحاسوب. وأكتب فى مجالين، الصحافة والرواية. الأول أعيش منه والثانى أهواه. لا أدرى ما الذى يمكن للكاتب أن ينتظر أكثر من التمتع بممارسة هواية محببة، وأن يتوقع رضا القرّاء؟
كيف تقيمين المشهد الثقافى العراقى حالياً؟ من مكانى البعيد، أرى الرواية تزدهر فى العراق والشعر يجاهد للصمود أمام جحافل الإملاءات الدينية. كنا فى الشعر التعبوى وصرنا فى الطائفي. وبين الاثنين يمكن للأذن أن تلتقط أصواتًا مبدعة ومتمردة ذات نبرة حميمة، لا تجد فى المعمعة مكانها الذى تستحق. لست بناقدة لأتمكن من التقييم لكننى كقارئة أتمتع ببعض ما أقرأ، وبما يسمح به الوقت. وارحمنى من الحكّة.
تعيشين خارج العراق منذ سنوات، هل هذه الغربة أفادتك أدبيا أم أثرت عليك؟ كل التجارب مفيدة، والسفر منعش بشكل خاص. لكننى لا أشعر بالبعد. وعملى فى الصحافة اليومية العربية يديم صلتى بالأحداث فى الوطن، وفى عصر الفضائيات لم يعد هناك داخل وخارج، وبالتأكيد أن الإقامة فى فرنسا وسّعت من أفقى الثقافى وعلمتنى التفتح على الآخر، أى الغريب والمختلف، وتلمس نبضنا المشترك كبشر.
ما الذى أعطاه المهجر ل “إنعام كجه جي” وما الذى سرقه منها؟ أعطانى لغة إضافية حيّة، وأتاح لى إكمال دراستى العليا والاقتراب من مناهل ثقافية ومعرفية غنية ومتعددة. لا أدرى إن كان المهجر هو الذى صقل شخصيتى أم الناس الذين التقيتهم وتجارب السنين. وإذ أراجع سؤالك، أمام عيني، أرى أننى لم أكن امرأة مقيدة ولا صحفية مقموعة فى بغداد، لكن باريس عززت حريتي. ولا تنسَ أننى جئت إلى الرواية فى سن متأخرة نسبيًا، بعد تجاوز كتيبة الرقباء والتخلص من بعض خوفي. وأقول بعضه لأن ما تبقى موشوم على الروح، مثل الوحمة الولادية.
صدرت لك رواية جديد بعنوان “النبيذة “ ماذا عنها وعن ظروف كتابتها؟ هى رواية تتابع تحولات ثلاث شخصيات ذات أمزجة مختلفة، امرأتين عراقيتين ورجل فلسطيني، لكل منهم حكاية دفعت به بعيداً عن مسقط رأسه. إنه الشتات الذى ضرب عربًا كثيرين وكنت مهمومة به فى كتاباتى السابقة. وهى مصائرنا التى لا نختارها تمامًا بل تفرضها علينا تقلبات الأوضاع السياسية. لقد عاش جدى ستين عامًا ومات دون أن يضع قدمًا خارج بلدته. بينما توزع أبناؤه وبناته فى أرض الله الواسعة. وأحفاده يتكلمون اليوم سبع لغات مختلفة. هناك عراقيون يولدون فى الخارج ولم يعرفوا البلد، مثل فلسطينيين بالآلاف يحفظون أسماء القدس ويافا والخليل ولم يروها رؤية العين.
لماذا اخترت التاريخ لتجربتك الروائية الجديدة؟
ليست تاريخًا بالمعنى المدرسى وتراكم الغبار على الحقب الزمنية. تبدأ الأحداث قبل ولادتى ببضع سنوات، وكانت أصداؤها وتأثيراتها حاضرتين فى جيلي. ثم أمشى مع شخصياتها حتى وقتنا الحالى إذ تنتهى فى خريف 2017. وقد ماتت بطلة “النبيذة” الحقيقية بعد أيام من تسلمها نسختها من الرواية. ولأننى آتية من الصحافة، فقد انطلقت، كعادتي، من وقائع اجتهدت لتلوينها بأطياف الخيال. فمهما كان الحدث العراقى مثيرًا وغرائبيًا وصادمًا، فإنه يبقى مسطحًا وساكنًا إن لم نُركّب له أجنحة من خيال. كما أن الخيال حلو وكذّاب. أى تزوير مفضوح يحتاج لكسوة من لحم ودم حقيقيين. وأنا لم أختر التاريخ بل توقفت عند تلك اللحظة القريبة التى زلزلت فيها الأرض زلزالها تحت أقدام العراقيين. ولولا ما جرى لما راودتنى الرغبة فى الاقتراب من كتابة الروايات. كانت لديّ صرخة محتبسة فى حلقى وفتحت فمى وأطلقتها. ومهما توقفنا، كروائيين عراقيين، عند تفاصيل هذه اللحظة المستمرة منذ ثلاثة عقود، فإننا لم نفها حقها بعد. لابد أن نحكى لأبنائنا ومن ولدوا بعدنا كيف اشتركنا جميعًا فى جريرة تحويل فردوس اسمه العراق إلى جحيم أرضي. والأدهى أن شيئًا لم يتغير بعد زلزال الاحتلال. وما زالت السفاهة تتجول حرّة فى الشوارع. يبدو أن التاريخ يلاعبنا ولا نتعلم.
“النبيذة” هل هى رواية أم سيرة؟ وهل هى رواية تاريخية أم رواية توظف التاريخ؟ هى قصة حب قبل كل شيء. وثلاث سير لا واحدة، تتداخل فى أزمنة معينة وتواصل الاشتباك برغم تقلبات التاريخ وتعسف الجغرافيا. ومن خلال الغرام المستحيل يتابع القارئ ما جرى فى أكثر من بلد تنقلت بينه الشخصيات الثلاث. ولا أخفى عليك أننى أتمتع بكتب المذكرات أكثر من غيرها. وأميل إلى ما عاشه رجال ونساء معروفون أو مجهولون، لأننى أقرأ وراء كل وجه رواية.
“النبيذة” تروى ثمانين عاماً من تاريخ عراق معذب وأحداث تدور بين فلسطين، بيروت، العراق، كراتشي، فنزويلاوباريس، لماذا تلك الفترة تحديدا؟ الشخصية الرئيسيّة، تاج الملوك، كانت صحفية ومن أوائل صاحبات المجلات فى عراق الأربعينيات، ربطتها صداقة برئيس الوزراء نورى السعيد ومناوشات عاطفية مع الأمير عبد الإله، الوصى على العرش. لكن موقفًا سياسيًّا معينًا أفسد علاقاتها بالقصر فوجدت نفسها مطرودة من العراق إلى كراتشي، حيث عملت مذيعة فى راديو باكستان الناطق بالعربية، بعد الاستقلال. وهى الإذاعة نفسها التى ذهب للعمل فيها منصور البادي، الشاب الفلسطينى المهجّر من بيته فى القدس بعد نكبة 48. أما وديان الملاح، التى تصغرهما كثيرًا فى العمر، فكانت عازفة فى الأوركسترا السيمفونية فى بغداد قبل أن تصاب بالصمم على يد أحد المتنفذين من عشيرة الحكم. هربت إلى باريس وتعرفت إلى تاج الملوك التى كانت قد أصبحت أرملة ضابط فرنسى فى المخابرات جندها للعمل معه. أما منصور، العاشق الأبدي، فقد قادته المصادفات إلى فنزويلا، حيث أصبح مستشارًا لرئيسها شافيز وسفيرًا له فى تركيا. إنها الفترة التى بدأت فيها أنهار الدم فى العراقوفلسطين ولَم يتوقف جريانها بعد.
كيف يتعامل الروائى مع التاريخ؟ يتعامل كروائي. أى كمنبع لسرد يجتهد ليجعله مشوقًا وذا دلالة. لكننى أعود وأقول إننى لم أستعر من التاريخ القريب سوى ذيوله التى عبثت بحياتنا الحاضرة.
شخصيات الرواية بدءا من تاج الملوك عبد الحميد، نورى السعيد، وديان الملاح، والفلسطينى منصور البادى كم اقتربت من الواقع؟ كلها فى الأساس واقعية، مع شيء من التلاعب بسحناتها كما يفعل جراح التجميل أو خبير الماكياج. ويحدث أن ينحرف مشرط الجراح ويفشل فى مهمته، كما يحدث فى الواقع أحيانًا، فيصبح الوجه هجينًا ومختلفًا عما كان. وهذا قد يزعج الباحث عن الكمال، لكنه يغرى كاتبًا يمارس لعبة الضوء والظل ويجد الجمال فى الوجوه الملعوب بها.
تهتمين بحركة المجتمع وحركة التاريخ فى عملك الروائى فأين أنت (الفرد الذى هو إنعام كجه جي) فى إبداعك؟ أسير مع السائرين وأتقدم فى العمر وأتفرج على الملهاة الجارية من حولنا وأغضب وأبتئس ثم أبتسم وأواصل التقدم والفرجة.
هل رواية “ النبيذة “ تروى الواقع العراقى بعين المثقفة والكاتبة؟ بعين مواطنة مهاجرة تتمنى لو كان فى مقدورها ما هو أجدى من سلطة الكتابة.
إلى أى مدى تتعايشين مع بطل روايتك؟ أرسمه وألوّنه وأصادقه وأجادله وأسمح له بأن يختلس أشياء من تجاربي. تآلفت مع بعض أبطالى، فهل تصدّق أننى لم أقع فى حب أى منهم؟ الحب يفقدك الزمام. ولابد من الاحتفاظ بالمصائر تحت اليد.
صدر لك العديد من الأعمال الروائية منها على سبيل المثال “الحفيدة الأمريكية”، “سواقى القلوب”، “طشّاري” كيف ترين تلك الرحلة الأدبية؟ أبوس يدى ظهرًا وباطنًا. ركبت القطار متأخرة لكن الرحلة ممتعة. فازت الترجمة الفرنسية لرواية “طشاري” بجائزة الرواية العربية التى تمنحها مؤسسة “لاغاردير” الأدبية سنويا، بالتعاون مع معهد العالم العربى فى باريس، كيف استقبلت ذلك خصوصاً أنها أول مرة تفوز فيها رواية عراقية بهذه الجائزة؟ فرحت بها والله. الجوائز تسهم فى الترويج للكتب، والمبالغ المالية المرافقة لها تسند من يعيش من قلمه. ما الدور الذى تلعبه اللغة فى أعمالك؟ هى عشقي. أتمتع بانتقاء المفردات متعتى وأنا أختار حبات الكوسة والفلفل والبصل لطبخة محشى “دولمة”. أسعى لأن تكون سلسة وموحية فلا يصاب القارئ بعسر الهضم. هل تسعين لأن تحدثى متعة فنية للمتلقى أثناء إنتاج رواياتك؟ نعم ثم نعم. قلبى لا يطاوعنى أن أقوم بتعذيب الطيبين الذين يقتنون الكتب. هؤلاء فصيلة فى طريقها إلى الانقراض ولا بد من التشبث بها والترويح عنها وإقناعها بخير جليس. هل حدث أن تمردت عليك إحدى شخصياتك الروائية وارتأت غير ما ارتأيت ككاتبة؟ تمردت عليّ زينة فى “الحفيدة الأمريكية” لكننى عاقبتها كما تعاقب الأم ولدًا عاقًا. أى تقسو عليه وهى تتألم أكثر منه. خرجت من العراق إلى فرنسا، ما الضغوطات التى أدت إلى تركك العراق فى تلك الفترة، وبعدها شهدت الساحة الثقافية العراقية نزوحًا جماعيًا من قبل المثقفين إلى الخارج؟ لم أخرج منفية أو لاجئة بل لمواصلة الدراسة فى بعثة من حق الخريجين الأوائل، كان ذلك قبل النزوح الجماعى بسنوات. ثم سددت، مضاعفًا، ما كان عليّ من دين لدائرة البعثات، حسب مقتضى القانون، واخترت البقاء فى فرنسا لأسباب شخصية، قبل السفر كنت محررة ثقافة وفنون فى جريدة “الثورة” وأكتب وفق ضميرى وأشهد أن أحدًا لم يفرض عليّ شيئًا. لم يكن الزلزال قد استيقظ بعد. العمل الأدبى هو الذى يصنع تاريخه.. هل يجب امتلاك ثقافة تاريخية ليتمكن الروائى من التحكم فى فصول روايته وأحداثها؟ كل أشكال المصادر والمراجع والثقافة التاريخية تختصرها لك الموسوعات والعم جوجل. برأيك هل ستنعكس الأحداث فى العراق على الروايات المقبلة، وهل سينشأ ما يسمى “جيل ما بعد الحرب” فى الرواية؟ قل هل سنعيش لنرى “جيل السلام” فى الرواية؟ الرواية العربية متأثرة بالأدب الحديث ومعتمدة على ما وصلت إليه الرواية الغربية، فهل هنالك رواية عربية بعيدة عن التقاليد الأوروبية فى الكتابة؟ التأثر فى الفنون وارد. ولا تنس أن كثيرًا من الروائيين الكبار والمؤسسين فى الغرب تأثروا بكتاب “ألف ليلة وليلة” هى بضاعتنا رُدّت إلينا وإرث أجدادنا. هل تفكرين فى القارئ أثناء كتابتك؟ يحدث أن أفكر بالأصدقاء، لأننى أقيم خارج المنطقة العربية، ونادرًا ما ألتقى بمن تسميهم القراء. وفى روايتى الأخيرة كنت أفكر بأبى وبما سيكون رأيه لو امتد به العمر. لماذا لا تترجم كتبُنا العربية إلى لغات أجنبية؟ صارت تترجم بأفضل من السابق لكن الترجمة لا ترفع من الاستحقاق، القارئ العربى هو المعيار الأول. ما المرجعية فى كتاباتك وهل أنت من الكتاب الذين انبهروا بالكتابات الغربية خصوصا أنت تعيشين فى فرنسا؟ أنبهر بما يُكتب فى الصحافة الفرنسية من مقالات رأى وتحقيقات وحوارات، وقد شدّنى أدب أمريكا اللاتينية واليابان وتمتعت به. وتبقى مرجعياتى عند نجيب محفوظ وفؤاد التكرلى والطيب صالح وإميل حبيبي، وفى الشعر العربى القديم. كيف تتعاملين مع النقد؟ ممتنة لمن كتب عني. أنت من الكتاب الذين حصدوا بعض الجوائز ما رأيك بالجوائز الأدبية؟ هل تشكل دليلا على إبداعية المنتج الأدبي؟ لم أحصل سوى على جائزة “لاغاردير” وكان الأجدر أن تذهب للمترجم الأستاذ فرانسوا زبال وليس لى، لأنها كافأت النسخة الفرنسية من الرواية. أما “البوكر” فقد تسللت إلى قائمتها القصيرة مرتين وكان غيرى أجدر بها. ما مشاريعك المقبلة وماذا تكتبين الآن؟ أكتب واجباتى الصحفية اليومية وأعتنى بها اعتنائى بنص أدبي.