للوهلة الأولى حينما تتابع تغريدات أنور قرقاش، وزير الدولة الإماراتى للشئون الخارجية، عبر موقع «تويتر» ستكون انطباعًا بأنه مسئول حكومى يُسّوق سياسات بلاده، لكن بالمزيد من التأمل ومتابعة برقياته وتحليل مضمونها، ستكتشف أن الانطباعات الأولى كثيرًا ما تكون مُخادعة وتنقصها الموضوعية، فالرجل يمارس مهام سفير وطنه، وحلفائه لدى شريحة هائلة تشارك بوسائل التواصل الاجتماعي، وأنه يمتلك روحًا شابّة ومهارات أخرى تؤهله ليصبح ظاهرة سياسية اجتماعية بلورتها الأزمة القطرية، واختطفت الأضواء من النجوم التقليديين، فقد أصبحت تغريداته التى تتسم بالاختزال غير المُخّل واللغة المهذبة ووضوح الرؤية وحيوية التفاعل موضع اهتمام شرائح شتى، بدءًا بصُنّاع القرار بالمنطقة، مرورًا بوسائل الإعلام التى تتسابق لنشر برقياته والتعليق عليها سلبيًا أو إيجابيًا، وصولاً لشباب بعمر أبنائه. وكشف دبلوماسى عربى عن تكليف وزير خارجية دولته المحورية بمتابعة تغريدات قرقاش وعرضها عليه بانتظام، وحين تكون لإحداها أهمية خاصة يبلغه فورًا دون انتظار المسارات البيروقراطية، الأمر الذى يؤكد أننا حيال ظاهرة تستحق التأمل بدوائر السياسة فى دولة اختارت طريقها وحسمت أمرها مُبكرًا، وأقصد الإمارات التى انحازت للحداثة وتمكين الشباب للمساهمة بصياغة المستقبل، دون المساس بالأعراف الاجتماعية المحافظة، والتقاليد الدبلوماسية، عبر صيغة تبدو سهلة، لكنها بالغة الحساسية، وتعرف طريقها لوجدان متابعى قرقاش وعقولهم، الذين يتجاوز عددهم شعب قطر، لدرجة تخلى فضائية «الجزيرة» عما تصفه بالمهنية والموضوعية التى صدعتنا بها، وبثت تقارير تشبه «الردح البلدي» وسمته «الوزير المُغرد» كأنها سُبّة.
يستحق قرقاش ذلك الوصف بجدارة لوعيه بذهنية الأجيال الشابّة فلم يتشرنق بمكتبه كغالبية المسئولين العرب، ولعل السبب يرجع لتنوع روافده بدايةً بتلقى التعليم الإلزامى بمدارس «دبي» الحكومية، لترسخ داخله بمرحلة التكوين الروح الوطنية، ومنظومة القيم الاجتماعية والصلات بأقرانه، وانتقل بعدها لخطوة جديدة بأمريكا، نال خلالها درجتى البكالوريوس «1981» والماجستير «1984» بالعلوم السياسية فى جامعة «جورج واشنطن» بالإضافة لوعيه بمجتمع سمته تعايش مختلف المتناقضات بروح التنوع، وحملته مسيرة التكوين لبريطانيا المحافظة لمواصلة دراسته بجامعة «كمبريدج» العريقة عام 1990، ليستكمل مؤهلاته الأكاديمية، وبرغم انغماس معظم عائلته بمجال البيزنس، لكنه فضّل الالتحاق بهيئة التدريس بجامعة الإمارات بمدينة «العين» ليحاضر بشئون النظم السياسية المقارنة، وقضايا الأمن القومى لمنطقة الخليج.
وواصل مسيرته الأكاديمية والسياسية، وخاض تجربة «البيزنس» حيث عمل منذ 1995 حتى 2006 بالقطاع الخاص، ولعل تكوينه الشخصي، وشغفه بالعمل العام، وإيمانه بضرورة تنوع خبراته وتعدد مشاربه جعله عضوًا بمجلس إدارة غرفة تجارة دبى ومكتبها التنفيذي، والمجلس الاقتصادى بدبي، ليصبح بذلك أحد أبناء الرعيل الأول لمدرسة أبناء الشيخ زايد، ذلك الحكيم الذى أدرك بوعيه الفطرى أهمية الاستثمار بالإنسان، ليكون مؤهلاً للعمل العام والخاص، لهذا كان منطقيًا تكليفه عام 2006 بحقيبة شئون المجلس الوطنى الاتحادي، المعنية بترسيخ البنية التحتية السياسية والاجتماعية لتجربة وحدة الإمارات، وأثبت جدارته بهذه المهمة ليُكلف بعد عامين بحقيبة وزارة الدولة للشئون الخارجية، بجانب مواصلة توطيد أواصر العلاقات بين الإمارات التى تُشكل الدولة، لهذا اكتسب خبرات عميقة بآليات الوحدة واحتفاظ مكونات الدولة بهويتها تحت المظلة الجامعة للعلم الواحد، لهذا يصبح اتهام خصومه باعتباره مصدر تفرقة للفضاء الخليجي، محض لغو وافتراءات لأنه ربيب مدرسة الوحدة وأحد عرّابى الحلول الوسط، بإتقانه الممارسات العملية لتقريب الرؤى بين مكونات دولة الإمارات، وتراكم الخبرات السياسية والمهارات التفاوضية بهذا المضمار.
يتحدث مقربون منه بانبهار عن إبداعه بتهيئة مناخ التناغم بين الأصالة والحداثة، ومهارات السياسى الساعى للحلول الوسط و«فن الممكن»، والأكاديمى المسكون بالدراسات العلمية الموضوعية الرصينة، فتولى رئاسة تحرير سلسلة «دراسات إستراتيجية» الصادرة بالعربية والإنجليزية عن «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية» لقناعته المُبكرة بأهميتها لمساعدة صانع القرار، بنفس الدرجة التى أدرك خلالها أهمية الإعلام بتشكيل الوعى السياسى والحضاري، لهذا انضم لعضوية مجلس إدارة «أبوظبى للإعلام» منذ نشأتها، ومؤسسة «الاتحاد للصحافة والنشر»، بالإضافة لرئاسة مجلس أمناء «مؤسسة العويس الثقافية»، وعضوية مجلس أمناء «أكاديمية الإمارات الدبلوماسية» وغيرها.
وخلال تقلده لهذه المناصب المتعددة أتاح آلاف الفرص لشباب الباحثين والإعلاميين والموهوبين بالعلوم والآداب والفنون ليس لأبناء الإمارات فحسب، بل تجاوزها لمحيطها الإقليمي، لقناعته بخطورة تأثير «القوة الناعمة» الداعمة لخيار «الدولة الوطنية» المؤمن بها، ومسئوليتها الحضارية برعاية أجيال ستكون مخزون بلاده الإستراتيجى مستقبلاً، فوعيه بتشابك مصالح وتلاقح ثقافات المنطقة، دفعه لتأسيس «لوبى إماراتي» ستحتاجه الدولة أى دولة إن عاجلاً أو آجلاً، ليكون ظهيرها بقناعة متجذرة وطوعية، خلافًا لسلوك النخاسة بشراء الذمم والمواقف، الذى أمسى لعبة مُستهجنة ومُبتذلة تضر ولا تفيد.
وعبر مسيرته تبلور وعى قرقاش الوحدوى فأصبح أحد أبرز الدعاة لوحدة دول مجلس التعاون الخليجي، وأدرك مكامن قوة هذا الكيان الفاعل، وتأثيره على محيطه الإقليمي، ولم تتوقف مساهماته على الصعيدين السياسى والأكاديمى لكنه بادر لتوضيح مواقف دول الخليج بالقضايا الدولية والإقليمية، لدرجة الاضطلاع بمهمة «محامى الأمة» الذى استثمر فى الإنسان بدءًا بالإماراتى والخليجى ثم العربى والدولي، وساعدته بإنجاز مهمته رؤية «رجل الدولة» وواقعية رجل الأعمال، وموضوعية الباحث الأكاديمى ليستشرف المستقبل متكئًا على طبقات مُتراكمة لثلاثة أجيال صارت أبرز إنجازاته بعيدة المدى، ومتنوعة المشارب فالشعوب ليست مستنسخات متطابقة، لكنها أقرب لبنية الجيوش الهرمية، فالصراعات الراهنة تجاوزت التحديات العسكرية للمعارك الفكرية، وساحات الواقع الافتراضى تؤكد المفهوم، لذلك راهن عليها متجاوزًا تحفظات الساسة المتكلسين الكلاسيكيين، والمساحات التى يحرصون عليها بتواصلهم بالأجيال، مستندًا لحيوية ذهنية وفاعلية «المثقف العضوي» لتشريح الأزمات وتفكيكها بسلاسة لتتوالى بعدها الحلول بعفوية وبساطة تُعيد النظر بدور السياسى النمطى الذى تقتصر أدواته على التصريحات والمؤتمرات وأحاديث الغرف المُغلقة والأبراج العاجية، لتضعهم تجربة قرقاش بمأزق يدفعهم لمراجعة أنفسهم، فالمسئول الموظف «كائن ديناصوري» سينقرض حتمًا.
ولعل حملة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الانتخابية أكدت فاعلية التواصل والمكاشفة والمواقف الصريحة، فهناك فريق يشمل خبراء بمختلف العلوم السياسية والاجتماعية والنفسية أسهموا بالمعركة وربحوها.
وأخيرًا شكرًا للأزمات لأنها تنير بصيرتنا، وتدفعنا للتوقف مع الذات دون مُكابرة، ولأنى لست من هواة تقديم النصائح، أعتبرها دعوة صادقة لحُكّام قطر لاستقراء التاريخ والواقع واستشراف المستقبل ببصيرة المتصالحين مع محيطهم الحضارى والجغرافى والتاريخي، ولست متفائلاً بأن أحدًا بالدوحة سيكلف خاطره بمراجعة «برقيات قرقاش» الصادقة الصادمة، لأنه طراز من الرجال اتفقت أو اختلفت معهم لكنهم واثقون بعدالة قضاياهم، لهذا لا يمارسون الاستعلاء والاستقواء، اللذين سيدفع فواتيرهما الأجيال المقبلة، وتعلمنا أن للتاريخ حكمته وأحكامه التى لن ترحم أحدًا، وليس بوسع مخلوق شراؤها مهما امتلك من ثروات، فكم زالت إمبراطوريات عظمى، لأن القائمين عليها أساءوا تقدير المواقف وافتقدوا الحكمة ويقظة الضمير.