الفكر القومي العربي قديم في لبنان، فالرواية العائلية غالباَ ما كانت تتمحور على الأحداث والأساطير العربية، كذلك الأحاديث القروية والمدينية سواء في المقاهي أم المنتديات، حيث احتلت السيرة العربية المقام المتميز سواء عن طريق الحكواتي أو أستاذ المدرسة، أم الوجيه السياسي الذي كان يتقرب من الجمهور بإبداء العواطف نحو التراث القومي، أم ادعاء المعرفة بالتاريخ العربي. على أن الدور الذي يجب التنويه عنه هو دور الأديار ورجال الدين المسيحيين في جبل لبنان الذين حافظوا كزملائهم علماء الدين المسلمين على اللغة العربية وآدابها وقواعدها سواء في زمن العنصرية الطورانية أم خلال المرحلة العثمانية. أما تأسيس المدارس الأجنبية والوطنية في جبل لبنان وبيروت والمناطق على يد الإرساليات والهيئات المحلية فقد وسّع الآفاق وأهّل الكثيرين للتبحر في مسالك المعرفة، حيث برز العلماء والأدباء والأطباء المهتمون بالبحث والكتابة والدعوة. وكان منهم بطرس البستاني، وإبراهيم وناصيف اليازجي، وأحمد فارس الشدياق، والشيخ يوسف الأسير، وجرجي زيدان، ويعقوب صروف، وشبلي الشميل، وفرح انطون، وبشارة وسليم تقلا وسواهم. وقد هاجر معظم هؤلاء إلى أرض الكنانة، حيث وجدوا فيها الاحتضان والفضاء الواسع للقراءة والكتابة والنشر، فأسسوا مع الموجة الجديدة من المهاجرين (مي زيادة، خليل مطران) الجرائد والمجلات ودور النشر وفتحوا الصالونات الثقافية التي شجعت على التفاعل وبلورة الأفكار الأدبية والقومية.. وتفاعلت تلك البيئة الثقافية اللبنانية مع البيئة الثقافية في مصر كما مع الأدباء والكتّاب الأجانب فيها، حيث أفضى ذلك إلى تطورات إيجابية على صعيد الأدب والثقافة القومية.
إلى ذلك نشير إلى التواصل مع الأدباء المهجريين وفي مقدمتهم أمين الريحاني وأعضاء الرابطة القلمية (ميخائيل نعيمة، جبران، نسيب عريضة، عبد المسيح حداد، ندرة حداد، رشيد ايوب، وليم كاتستفلس، وإيليا أبو ماضي)، فضلا عن جورج صيدح، إلياس فرحات، والشاعر القروي، هذا التواصل الذي أدى إلى إغناء الحركة الثقافية والنهضة القومية.
كذلك لعب الشعراء دورا مهما في إشعال العاطفة القومية في لحظة كانت الأمة العربية تتعرض فيها للاحتلال والتقسيم عندما تنكرت بريطانيا العظمى لكل وعودها وعهودها تجاه العرب لتتفرغ لتنفيذ وعد بلفور ومساعدة الوكالة اليهودية في تأسيس كيان الاغتصاب والاستيطان على أرض فلسطين، مما ولد خيبة واسعة وغضبة عارمة على المستعمر والمتعاونين معه، والمستسلمين لسياساته التمييزية العنصرية.
وعندما انطلقت ثورة يوليو 1952 تدك عروش التخلف والانحطاط، وتستجيب لمصالح الطبقات الشعبية، وتنشط بتصفية الإقطاع، وطرد القوات البريطانية، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وإطلاق عجلة الصناعة شعرت الجماهير في مصر كما في كل قطر عربي بأن مرحلة جديدة تشرق على الأمة العربية، تفتح الطريق للسيادة والاستقلال وتؤمن للجماهير مجتمعات الكفاية والعدل. لقد أسهمت ثورة 23 يوليو في تعزيز حركة الجماهير الساعية إلى مقاومة الاحتلال وطرد النفوذ الأجنبي وبناء المستقبل الحر في الجزائر واليمن والعراق وسورياولبنان والخليج العربي، كما أطلقت روح التغيير والتحرر في إفريقيا وآسيا حتى غدت القاهرة محط أنظار العالم وقبلة الاستقلاليين من إندونيسيا إلى كوبا، وتضاعف تأثيرها في كل بقاع العالم وخصوصا عندما نجحت في تأكيد ذاتها، وإطلاق طاقاتها، وزراعة أراضيها، وصون مياهها، واحترام شعبها، وطرد الغزاة من على أرضها، وبناء السدود والمصانع والجامعات والمدارس والمؤسسات العامة، فشعر المصري كما “العربي” بالفخر والاعتزاز لوجود قيادة فذة ، مثلها جمال عبد الناصر، تسهر على شئونه وتخطط لمستقبله.
غير أن النظام المصري ومجمل القيادات لم تكن بمستوى الأفكار والمواقف والتطلعات التي مثلها قائد الثورة جمال عبد الناصر، بما أدى لاحقا إلى توالي العثرات والنكسات، ولا سيما على صعيد الوحدة مع سوريا، أو على صعيد الحرب في اليمن، حيث ضربت في الصميم الأهداف القومية النبيلة للمواقف الناصرية، فتحولت الوحدة إلى انفصال بفضل تألب قوى الرجعية والاستعمار، وبسبب قصور القائمين عليها من المصريين والسوريين الذين لم يفهموا جوهرها والتضحيات التي تتطلبها، كونها التجربة الوحدوية الأولى في تاريخنا المعاصر، في حين مثلت حرب اليمن ذروة الاستنزاف للجيش المصري وعبد الناصر.
أما هزيمة يونيو فكانت ذروة التحول السلبي الذي أصاب ثورة 1952 حيث اكتشف عبد الناصر ومعه الجماهير العربية اهتراء النظام في الداخل، وتفشي أمراض الانهزامية الوصولية في مراتبه العليا، مما أدى إلى ما يشبه الانتفاضة على الواقع السياسي كما العسكري قادها عبد الناصر بالتحالف مع الشباب الثائر وكل العناصر الوطنية داخل المؤسسات المصرية، وفي طليعتها الجيش الوطني الذي استعاد حيويته وقدراته بواسطة التدريب المستمر، وتغيير الهيكلية، والمساعدات السوفياتية، وسهر عبدالناصر الدائم على المسيرة الصاعدة التي تكللت، بعد ثلاث سنوات من رحيله، بانتصار عظيم على جيش الاحتلال الصهيوني.
هذه التجربة المهمة في تاريخنا المعاصر خضعت لأبحاث ومراجعات تمحور أكثرها حول حرب العبور والحركات العسكرية والمناورات السياسية التي رافقتها، لكن الكثير ما زال مطلوبا لتقييم المرحلة ككل ومن ضمنها تجربة الوحدة المصرية السورية، وتجربة حرب اليمن، والعلاقات بين القوى القومية العربية، وبينها وبين القوى السياسية الأخرى. وكل ذلك ضروري لاستخلاص الدروس والعبر التي تنير الطريق أمام الأجيال الجديدة كي تكتشف مكامن الخلل فتتجنبها وتعرف مواطن القوة فتركز عليها وتطورها في مسيرة النضال الطويل ضد التخلف والغلو، وضد الاستعمار والاستيطان.
وقد لعبت السياسة دورا كبيرا في عملية التآكل والتردي التي تعرض فيها الفكر القومي إذ إن الأنظمة السياسية التي مثلته أو ادعت تمثيله أساءت إليه في كثير من الأحيان عندما سخرته لمصالحها العارضة، واتخذت منه غطاء لتبرير حكمها المفتقر إلى الشرعية الدستورية أو الشرعية الشعبية. كما أنها لم تتورع في بعض الأحيان عن تبني هذا الفكر واستخدامه للتستر على مصالحها الشخصية وتوجهاتها الفئوية.
وجراء ذلك كله دفع الفكر القومي التحرري ثمناَ باهظا، مما أضعفه وأسهم في تشويه صورته أمام الأجيال الجديدة التي تتطلع إلى الحرية والحكم الصالح، والتي تنفر من محاولات تطويع الفكر واستخدامه لصالح الانحراف والمصالح الذاتية.
فالأمر عند هذه الأجيال، التي تتمتع بحس نقدي مرهف، هو الصدق في المقاربة والتطابق بين القول والفعل، حيث لم يعد للكلمة من معنى والشعار من تأثير إلا في حال التجلي الصريح والتطبيق الدقيق لما يقال ويطرح في زمن العولمة وانتشار المعلومة وانكشاف الحقائق.
جرت مراجعات عديدة للفكر القومي العربي وتجاربه، بإنجازاتها وإخفاقاتها، وذلك من خلال العديد من المؤتمرات التي عقدت خلال المرحلة الماضية. على أن أهم هذه المراجعات هي التي حفلت بها أعمال “مركز دراسات الوحدة العربية” وشارك فيها كتاب وسياسيون من مختلف البلدان العربية وخصوصا مصر. وقد صدر عن تلك اللقاءات والمؤتمرات أبحاث ومقررات وتوصيات تكتنز بالدروس المستخلصة بعد الإقرار بالسياسات والتوجهات الخاطئة التي اعتمدت من قبل كثيرين ينتمون الى الفكر القومي التحرري أو يدعون ذلك ظلماَ وعدوانا.
وأبلغ الدروس التي توصلت إليها تلك الحلقات الدراسية بالتلاقي مع تجارب عملية شهدها الواقع وتابعها القاصي والدانى، تفيد بأن الفكر القومي التحرري هو بالتعريف الفكر العربي الجامع الذي يحاكي العصر، ويحترم القوميات الأخرى، ويقدر التيارات الفكرية المختلفة، ويؤمن بالحوار وحقوق الإنسان والجماعات، ويؤمن بتكامل الوطنيات، ويسعى إلى فهم الواقع من خلال مقاربات علمية واقعية، وينير الطريق أمام الجماهير لمعرفة الحقائق ووعي التحديات وأهمية المجابهة المستمرة لقوى التطرف لقوى الاستيطان والاستعمار التي لا تنفك تنهب الثروات العربية بأشكال تتغير يوما بعد يوم.
أن تبني الفكر القومي التحرري، إنما يعني اعتماده والاستعانة به لتحقيق أهداف الجماهير التي طال انتظارها لرؤية بعض أحلامها تتبلور على أرض الواقع.