بدت معالجة القضايا في هذا الزمان معكوسة, وظهرت مواجهتها أمام الرأي العام من عجائب الدنيا, واشتدت غرائبها في قضية المرأة أو المرأة قاضية, وفي قضية علاج المواطنين علي نفقة الدولة والاتهامات الموجهة إلي بعض النواب في البرلمان!! وبرغم أن قضية المرأة كانت قد اجتازت الأزمة منذ بعيد, بعد أن تم تعيين المرأة قاضية حتي بلغ عدد القاضيات76 في مختلف المحاكم يجلسون علي المنصة مع زملائهم من القضاة.. ومن قبل بين زملائهم في النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة, إلا أن القضية عادت تصرخ من جديد بعد أن أسدل الستار عن الجدل فيها منذ عام2002 إلي أن قضي الأمر في26 ديسمبر2006 بقرار مجلس القضاء الأعلي بإصدار قرار تعيين قاضيات بعد أن أمتد الجدل بشأنها أمام المحاكم منذ عام1950 ومابعدها, وصدرت فيها أحكام كاشفة عن أحقية المرأة في أن تتبوأ مقعد القضاء لكنها تركت مناسبة إصدار القرار للزمن ووزن الملائمات!! لكن القضية عادت من جديد بعد قرار المجلس الخاص لمجلس الدولة الموقر, وبالإجماع, علي قبول طلبات التعيين في جلستين انعقدتا خلال عام2009, أغسطس.. ونوفمبر فتلقي مجلس الدولة طلبات التعيين في وظائف مندوب مساعد بمجلس الدولة, وهي أولي الدرجات, بل هي قبل ذلك, حتي تحصل علي دبلومين في القانون, بعدها يتم التعيين في وظيفة مندوب وهي الدرجة المعادلة لدرجة وكيل نيابة, ثم انعقدت الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة, لتناقش الأمر احتراما لقاعدة ديمقراطية الأغلبية, والإدارة الرشيدة.. باعتبارها قضية مهمة ومجتمعية, ومالبث أن دب الخلاف في الرأي, بين الجمعية العمومية بأغلبية كاسحة, ورأي الأقلية في المجلس الخاص, وسرعان ما اشتد الخلاف, وانحاز رئيس المجلس إلي تنفيذ قرار المجلس الخاص من قبل, فأصدر قراره باستمرار إجراءات التعيين, بالكشف الطبي.. والتحريات, ولايعتبر ذلك في حد ذاته قرارا بالتعيين, لأن الأمر سوف يعود في النهاية إلي المجلس الخاص, وازداد النقاش.. واشتعلت النيران, وأطلقت التصريحات خطأ وظلما, وما لبث أن كذبت التصريحات باحترام وشجاعة, وتطلعت النيران إلي من يطفئها, وصارت القضية لها وجهان اختلط كل منهما بالآخر فأساءا إلي بعضهما, وانعكس ذلك علي فهم كلام المتحدثين فيها. *** أول وجه في هذه القضية, ما يتصل بمهابة مجلس الدولة ومقام أعضائه, واحترام تقاليده العريقة التي صارت من الثوابت القضائية الراسخة, ومنها احترام الاختصاص, واحترام رأي الأغلبية في ذات الوقت مع سعة الصدر والتسامح دفاعا عن الحق والعدل من كل جانب, وبرغم أن هذه القضية, علي أهميتها البالغة, تخص قضاة المجلس وشئون أعضائه, وهم أحرص من غيرهم علي احترام الشرعية الدستورية والمساواة وتكافؤ الفرص وإعلاء الديمقراطية, إلا أن القضية ذاتها فرضت نفسها علي النقاش المجتمعي, ولايجادل أحد في إعلاء رأي الجماعة, واحترام الأغلبية, وهي من القواعد والأسس الراسخة في إرساء قواعد الديمقراطية, فرأي الأقلية حتي ولو كان معها الاختصاص, واجب الاحترام, لكن عليها إقناع الأغلبية بالحجة والمنطق, والأغلبية من حقها إعادة النظر والمداولة بالحكمة والموعظة الحسنة, دون تمسك بحقها في فرض رأيها غلبة علي الأقلية, حتي لانصطدم بتسلط الأغلبية أو ديكتاتورية الأقلية, وحتي أكون واضحا, فإن احترام رأي الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة واجب وفرض, ومحل احترام وتقدير, حتي ولو لم يتفق مع الأقلية, وأن يبلغ رأيها عقل وضمير المجلس الخاص حتي ولو كان معه سلطة الاختصاص في إصدار القرار, وعلي الرأي المعارض للتعيين ولو كان أغلبية, أن يدير الحوار والنقاش والمداولة للوصول إلي الرأي الراجح الذي يحقق مصالح البلاد والعباد, وإعلاء أحكام الدستور دفعا لعجلة التقدم, وتدعيما لثقافة المجتمع وتكافؤ الفرص والمساواة دون تفرقة بسبب الجنس, علي حساب أو لصالح جنس علي آخر. ولهذا فالرأي هنا واضح لايختلف عليه أحد, في احترام الاختصاص.. فيما يخص شئون أعضاء مجلس الدولة الموقر, ليظل علي اختصاص المجلس الخاص في شئون أعضائه, ومنها التعيين, والحفاظ علي سرية مداولاته بحكم القانون, علي أن يحافظ المجلس الخاص الموقر علي مقام المجلس مجتمعا, ومهابة أعضائه جميعا, واحترام المشروعية, ومنها رأي الجمعية العمومية, ليظل المجلس كيانا عاليا في ضمير أبنائه وأمام المجتمع, وحتي لاتمتد النيران أو تشعل الحرائق أو يقع الصدام.. كل ذلك يتطلب التهدئة بالحكمة والعقل والموعظة الحسنة بفضل الله وأبنائه العظام. *** أما الوجه الآخر من القضية فهو أحقية المرأة في التعيين بإحدي وظائف المجلس مندوبا مساعدا, وهي ماقبل بداية الدرجات في السلم القضائي, حيث يظل أمامها لسنوات طوال مسئولية الاجتهاد وبلوغ منتهي الكفاية, ولقد صار ذائعا في تاريخ مجلس الدولة ماهو معلوم منذ أول قضية عرضت عليه منذ عام1950 وما بعدها بشأن أحقية المرأة في التعيين تماما أسوة بالرجال, وقد كشفت الأحكام القضائية وقتها أن مبدأ الأحقية لايعدو أن يكون وزنا لمناسبات التعيين ومراعاة الملاءمات والظروف, تراعي فيه الإدارة بما لها من سلطة تقديرية, شتي الاعتبارات من أحوال الوظيفة ومناسبتها وظروف البيئة والعرف والتقاليد, أخذا بتكافؤ الفرص والمساواة, وعلي أن يترك للسلطة المختصة بالتعيين تحديد مجالات العمل القضائي التي تعمل فيها المرأة قاضية, وأن يتاح لها إثبات جدارتها وقدرتها علي تحمل مسئولياتها, أسوة بمثيلاتها في العالم العربي والإسلامي,( الأردن منذ عام95 وتونس منذ عام68 والسودان منذ أوائل الستينيات.. وسوريا منذ عام75, ولبنان منذ عام66 والمغرب منذ عام59 واليمن منذ عام90, وكذلك باكستان وتركيا وإيران والهند), ولقد أكدت الأحكام أن الإرجاء ومناسبة الزمن ليست قاعدة مطلقة, تصلح لكل زمان ومكان, وأنه إن لم يكن الوقت قد حان وقتئذ لتولي المرأة منصب القضاء منذ ستين عاما بالنظر إلي البيئة المصرية وقدرتها أو تفوقها علي الرجل في مدارج العلم والثقافة, فإن ذلك ليس مطلقا في كل الزمان, نعم كان ذلك منذ ستين عاما بالتمام والكمال!! وكانت وزارة العدل قد عرضت علي مجلس القضاء الأعلي تقريرا نظره بجلسة2002/6/8 عن المرأة ومنصب القضاء وقعه ووافق عليه, كل من فضيلة شيخ الأزهر وفضيلة المفتي ووزير الأوقاف ورأوا فيه أبحاثا قيمة وتوصيات حكيمة, كما أكدت لنا أحكام مجلس الدولة مبادئ هائلة من دائرة توحيد المبادئ عام2004 وبعدها الإدارية العليا عامي2007,2006 أنه عند المفاضلة بين المتقدمين لوظائف القضاء, فإن الكفاءة العلمية, والقدرات القانونية التي حددتها الجامعة بصفتها المختصة خلال سني الدراسة هي التي يتحقق بها وحدها المساواة أمام الوظيفة العامة, وهو الأساس القانوني والدستوري للتعيين والكفاءة العلمية, وناشدت المسئولين في الهيئات القضائية برفع الظلم الجسيم عن المظلومين وعلي ولي الأمر أن يتدارك هذه الكارثة, وكانت هذه الأحكام ضد الهيئات القضائية جميعا ومنها مجلس الدولة, وهنا تبدو عظمة القضاء المصري الشامخ. لكن المشكلة في اختلاط وجهي القضية ببعضهما حتي أساءت لها, وأسيء فهم المتحدثين فيها, فمن يدافع عن حق المرأة في التعيين وأنا معهم بدا وكأنه ينحاز لرأي الأقلية علي الأغلبية, ومن يدافع عن احترام الأغلبية بدأ وكأنه ضد تعيين المرأة قاضية, وأنا أخالفهم مع احترامي للجميع, وبدا أن الذي يؤمن بالقضية ويدافع عن أحقية المرأة قاضية, وأنا أحدهم, بدا وكأنه يعارض رأي الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة, ويغلب قاعدة الفرد علي الجماعة, والذي لم ينحز لقاعدة الأغلبية بدا وكأنه يؤيد الجمعية العمومية بالرفض مع أن كل أمر مختلف!! وأن مناقشة كل قضية يجب أن تستقل عن الأخري. أما قضية النواب والعلاج علي نفقة الدولة أو أراضي الخريجين وغيرها فلقد أصبحت علي كل لسان.. فيها من الغرائب والعجائب.. ولم يجد الشارع تبريرا أو تفسيرا لما جري.. وكل ما أعلن عنه أن المجلس الموقر في قضية العلاج قد طلب إلي وزارة الصحة مراجعة قرارات العلاج التي أصدرتها, كما طلب إلي وزارة الداخلية التحري عن صحة الوقائع والاتهامات ومعني التحري جمع الأدلة والشواهد والبراهين عن حقيقة هذه الاتهامات ومدي صحتها. إن من حق الشعب علي نوابه أن يظل ساهرا علي متابعتهم ليضمن سلامة تصرفاتهم والقيام بواجباتهم ومسئولياتهم قبل الشعب كله, وليطمئن علي أن ثقته كانت في محلها, وأنهم علي ثقتهم حتي يقرر مصيرهم في كل انتخابات, لأن نواب الشعب هم وكلاء عنه, وعلي الأصيل أن يتابع ويعرف ماذا يفعل النائب عنه أو وكيله لهذا كان من حق مجلس الشعب مجتمعا أن يبحث عن الحقيقة ومن حقه أن يطلب البيانات نعم البيانات والمعلومات من الجهات الحكومية أو غيرها, أو أن يطلبها من الجهاز المركزي للمحاسبات بحكم طبيعته واختصاصاته, أو يشكل لجنة لتقصي الحقائق أو أن يطلب من النائب نفسه مايساعد علي إظهار الحقيقة لكن السابقة الخطيرة مع احترامي للجميع أن المجلس الموقر قد طلب التحريات عن الاتهامات من وزارة الداخلية, ويعني ذلك إجراء الرقابة وجمع الأدلة والبراهين والمعلومات.. وربما التنصت, أو أية وسيلة أخري من وسائل التحريات التي قد تكون بغيضة, وهذا في حد ذاته خطر كبير, أن يطلب المجلس التحري عن بعض أعضائه ممن جرت حولهم الشبهات أو قامت بشأنهم الاتهامات, وكأنه قد رفع الحصانة عنهم حتي يجري بشأنهم التحريات والمعلومات وربما أقوال الشهود, حتي لو كان الأمر في النهاية سوف يكون تحت نظر المجلس وبيده وحده.. لكن الأمر يعتبر سابقة خطيرة أرجو أن يفسرها لنا المجلس الموقر, ويعلن مبرراتها حتي لا تكون سابقة برلمانية أن تراقب السلطة التنفيذية أعضاء البرلمان, لأنها صورة ومشهد معكوس!! *** وقديما كانت لائحة مجلس شوري النواب الصادرة من جانب الخديوي في22 أكتوبر1866 تحافظ علي كرامة عضو المجلس, لأنه وكيل عن عموم أهالي القطر المصري لا عن الجهة التي انتخبته, وفي ذات الوقت كانت تضع أبناء الدائرة في المعرفة والإحاطة عن تصرفات نوابه, فكانت المادة40 توجب علي الأعضاء أن يحضروا إلي المجلس في ملابس الحشمة, وجلوسهم فيه يكون بهيئة الأدب, وتنص المادة52 منها علي أنه إذا جوزي أحد الأعضاء أو صدر بشأنه أمر, يأمر الرئيس بإعلان صورة منه إلي الجهة التي يكون انتخاب النائب فيها, حتي يكونوا علي بينة من أمره. هكذا بدت معالجة القضايا أيها السادة في هذا الزمان معكوسة.. تحمل الغرائب.. علنا نعود إلي المبادئ والسوابق والتاريخ ونعالجها بالحكمة والعقل وبالقواعد والتقاليد القضائية الراسخة والسوابق البرلمانية العريقة, وحتي لاتكون المشاهد أمام الرأي العام معكوسة!! [email protected] المزيد من مقالات د . شوقى السيد