أثار الكلام عما أطلق بعضهم عليه وثيقة المباديء فوق الدستورية أو وثيقة المباديء الحاكمة للدستور الكثير من النقاش والجدال الذي كنا في غني عنه في هذا الوقت الخطير الذي تمر به البلاد, وبالفعل فقد انقسمت القوي السياسية الي فريقين رئيسيين الأول, يمثل الإسلاميين, والثاني يضم الليبراليين والعلمانيين واليساريين وغيرهم, وكلاهما يحشد قواه وكأننا مقبلون علي معركة حربية. لكن بعيدا عن الجدال والحشد دعونا نناقش الأمر بشيء من العقلانية والتجرد, وبداية ورغم تخصصي لم أسمع أو أقرأ عن وثائق تعلو أو تحكم الدساتير, لأن الدستورهو الوثيقة الأساسية التي تهيمن وتحكم جميع أوجه الحياة في الدول الديمقراطية, ولذلك أنا مع الذين وصفوا مثل هذه الوثيقة بأنها بدعة فهم لم يجاوزوا الصواب. ومن الناحية العملية والقانونية المحضة فإن مثل هذه الوثيقة تثير إشكالات كثيرة, وأسئلة أكثر, منها علي سبيل المثال: من الذي يضع هذه الوثيقة؟ وممن يستمد صلاحياته واختصاصاته القانونية والدستورية؟ وهل هذه الوثيقة متصلة بالدستور أي جزء منه أم أنها منفصلة عنه؟ ومن ثم كيف ستأخذ وضعها النهائي بالإستفتاء مع الدستور أم ماذا؟ لعل من أخطر الإشكالات في مثل هذه الوثيقة هو أن نضفي علي كلام البشر أيا كان صفة الديمومة والأزلية, فيا أيها العقلاء والعلماء دلوني علي بلد صنع هذا أو قال بمثل هذا القول. إن الذي نعرفه وما ناقشه فقهاء القانون الدستوري في كتبهم هو ما يطلق عليه إعلان الدستور أو مقدمة الدستور, وكلاهما يقصد به فاتحة مختصرة للدستور تحتوي علي الفلسفة والمنهج الذي قامت عليه نصوص الدستور, والغايات التي تستهدفها. وهذا الإعلان أو هذه المقدمة جزء لا يتجزأ من الدستور. وقد دار خلاف كبير بين المختصين حول القيمة القانونية لهذه الإعلانات أو المقدمات. ودون الولوج في دقائق التفصيلات القانونية والدستورية فإن أولهم: أعطاها قيمة أعلي من قيمة النصوص الدستورية ذاتها استنادا الي أنها تعبر عن الإرادة العليا للأمة, وتتضمن المباديء الدستورية المستقرة في الضمير الإنساني التي يتعين إحترامها حتي بدون النص عليها في مقدمة الدستور. والثاني: أعطاها قيمة مساوية لنصوص الدستورية لكونها صادرة من ذات السلطة التي أصدرت الدستور. والثالث: يعطيها قيمة مساوية للقوانين العادية فهي لا ترقي الي قيمة النصوص الدستورية لأن الذين وضعوها لو أرادوا لها ذلك لأوردوها في صلب الدستور, ومن ثم يجوز للبرلمان تعديلها وفقا للصالح العام. والرابع: ينكر عليها كل قيمة قانونية لأنها لا تؤدي الي إنشاء مراكز قانوية واضحة, فهي لا تتضمن إلا مباديء فلسفية وسياسية ولا تعبر إلا عن مجرد آمال ومثل عليا لها قيمة أدبية دون التزام قانوني. وتقديري أنه لا مبرر للفصل بين نصوص الدساتير ومقدماتها وإعطاء كل منهما قيمة قانونية تغاير قيمة الأخري, لأن الهيئة التي وضعتهما واحدة, ومن ثم فالمغايرة تعد تعسفا في الحكم. وبناء عليه فنصوص الدساتير ومقدماتها تحمل القيمة ذاتها التي للنصوص الدستورية ولها مالها من إلزام. وليس هناك ما يمنع من تضمين الدساتير مثل هذه المقدمات أما القول بوضع وثيقة مباديء فوق دستورية أو وثيقة مباديء حاكمة للدستور فهذا مرفوض لأنه يثير الكثير من الإشكالات الدستورية والعملية. ويجب أن نعطي اللجنة التي سوف يختارها المجس التشريعي لوضع الدستور جميع الصلاحيات. وأريد أن أذكر أن الدساتير المتعاقبة عندنا في واقعها كانت دائمة محكومة بضابط يتغافل عنه الكثير تكرر فيها جميعا, وكان آخرها دستور1791 م الملغي, حيث ورد في نص المادة الثانية الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها ا لرسمية, ومباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع وحسب علمي لم يعترض عليه أحد من الذين يرون وضع وثيقة فوق دستورية أو حاكمة له, ولا يمانعون فتضمين الدستور القادم مثل هذا النص, إذن لنتفق علي جعل هذا الضابط هو الحاكم للدستور القادم, ولكن لا نتعامل معه كما تعاملنا معه طيلة العقود السابقة من أنه فقط تحية كريمة للعقيدة الإسلامية, ولا يعني أكثر من مجرد تقرير للأمر الواقع من أن غالبي أفراد الدولة يعتنقون الإسلام فقط, ولكن يقتضي التزام هؤلاء الأفراد بأوامر الشريعة ونواهيها, بل إن هذا النص يحتم بلا أدني شك أو لبس أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس لكافة التشريعات والقوانين واللوائح في الدولة, بل أساسا للنظم الفكرية والاجتماعية بما تحويه من سياسة واقتصاد ونظام للحكم الخ..... وأريد أن نؤكد في الختام أن هذا النص يتضمن في حقيقته جميع النصوص أو الوثائق التي ترونها, بل نقول بكل ثقة إنها تزيد علي ما ترونه وتحفظ حقوق الجميع أغلبية وأقلية, مسلمين وغير مسلمين.