* مليونيات 29 مايو رسالة استعجال للمجلس العسكرى لنقل السلطة عبر الانتخابات. * ورسالة تحذير للمجلس العسكري لالتزام الحياد بين التيارات السياسية.. وإنهاء لعبة المبادىء الحاكمة للدستور. * المبادىء العليا للدستور غير معروفة فى تجارب الغرب !!
الملايين التى تجمعت فى ميدان التحرير وميادين المحافظات يوم الجمعة 29 يوليو وجهت رسائل متعددة لأطراف مختلفة: أهم رسالة هى للمجلس العسكرى تقول له لسنا ضدك أو فى مواجهتك، ولكن يتعين عليك الالتزام الدقيق بما تعهدت به من إجراءات لتسليم السلطة للمدنيين عبر صناديق الاقتراع. إن القلق بدأ يساورنا بعد انزلاق موعد الانتخابات التشريعية المحدد فى الإعلان الدستورى من سبتمبر إلى نوفمبر بدون أى مبرر مقبول. إن خرق مواعيد الإعلان الدستورى خلال الثورة يساوى بالضبط خرق المواعيد الانتخابية فى الدستور فى الظروف الاعتيادية. وهذا الخرق لا يحدث إطلاقا فى الظروف الاعتيادية، حتى أن نظام مبارك اللاشرعى كان حريصا تماما على المواعيد الانتخابية، لأن خرقها علامة صريحة على عدم المشروعية. ولكن المجلس العسكرى لم ينتبه إلى هذا الخرق الفاضح للإعلان الدستورى الذى أصدره بنفسه ويتصور أن الأمر هين وما هو بالهين.
ففى أول مرحلة لتسليم السلطة كانت القصيدة كفر. وهذا الخطأ الجسيم لا يسمح للمجلس بأى تسويف آخر فى المراحل القادمة. كذلك تضمنت رسالة المليونيات للمجلس العسكرى أن يلتزم الحيدة بين التيارات السياسية المختلفة، وأنه إذا ظهر عليه الانحياز إلى تيار معين، فإن التيار الآخر سيجمع قواه ويستعرضها ليدفع المجلس العسكرى إلى التوازن. ليس من المطلوب أن يدخل المجلس العسكرى لعبة السياسة بل المطلوب منه شىء واحد هو تسليم السلطة للمدنيين المنتخبين فى أقرب فرصة. ويجب أن يكون التزامه واضحا بعدم توجيه أى إشارة تشير إلى انحيازه لطرف دون آخر. كأن يتحدث عن مبادىء حاكمة للدستور، لأن طريقة إقرار الدستور قد تم الاستفتاء عليها وقضى الأمر. وهى عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة من مجلسى الشعب والشورى.
مليونيات 29 يوليو أكدت لمن يهمه الأمر فى الداخل والخارج أن الشعب المصرى لم يتعب ولن يتعب ولن يكل أو يمل حتى تحقق الثورة أهدافها كاملة، لقد قطعنا أكثر من ثلثى الطريق، ولن ننكص على أعقابنا فى الثلث الأخير. إن الشعب المصرى يعلم الآن ثمن الحرية وهو على استعداد كامل لدفع الثمن من دمائه إن لزم الأمر. فلا يعول من تبقى من نظام مبارك على الوقت، أو التعب أو الملل. فنحن وراءهم بالمرصاد حتى تطهير البلاد منهم جميعا.
وبمناسبة حكاية التعب والملل أشير إلى تجربة الثورة اليمنية، فأثناء زيارتى للخرطوم التقيت بأحد قيادات الثورة اليمنية وسألته كيف يعيش المجتمع اليمنى وكيف تنتظم الحياة والملايين معتصمة فى الشارع منذ 5 شهور، لابد أن على عبد الله صالح وزمرته يعولون على عنصر الوقت. قال لى إن الشعب اليمنى نظم حياته على أساس مواصلة الاعتصام السلمى إلى أجل غير مسمى حتى يرحل النظام بأسره، فالعاملون يتبادلون المواقع فى كل مصلحة حكومية أو شركة على هيئة نوبات منظمة بحيث يكون دائما هناك قسم منهم فى العمل وقسم فى مخيمات الاعتصام. كذلك فإن مخيمات الاعتصام بها أنشطة علمية واجتماعية مختلفة، فهناك مجموعات لتدريس المواد الدراسية (فصول تقوية)، ومجموعات لتعلم اللغات الأجنبية.. وهكذا. فمن يمكنه أن ينتصر على الشعب عندما يمتلك كل هذا الإصرار والعزم، وكل هذه القدرة على التكيف مع الظروف الصعبة.
إن الشعوب العربية وفى مقدمتها الشعب المصرى قد عرفت سبيل الخلاص من العبودية، وعرفت ثمن الحرية، وهى مقبلة على دفعه بقلب راض، وإصرار ملحوظ. وعلى القوى المعادية للثورة فى الداخل والخارج أن ترتدع وتعلم أن مصر والوطن العربى بأسره لن يعودا إلى مرحلة ما قبل الثورتين التونسية والمصرية. لن تعود الشعوب إلى قفص الذل والاستبداد مهما خططتم ودبرتم من مكائد.
دعونا فى حزب العمل إلى مليونية وحدة الثورة وتسليم السلطة، وقد توجه الفرقاء جميعا نحو هذا الشعار واتفقوا على شىء قريب من ذلك. ولكن الأطراف العلمانية تتهم الإسلاميين أنهم حولوا مليونية الجمعة الأخيرة إلى مليونية إسلامية. ومن الصعب توجيه اللوم للإسلاميين بعد أسابيع وشهور متصلة من الحملات الإعلامية الظالمة على التيار الإسلامى، والتى انتهت إلى القول بانسحاب الإسلاميين من الثورة طالما أنهم غير معتصمين فى التحرير!
من الأمور الطبيعية فى الثورات أن الاتفاق والإجماع فى مرحلة إسقاط الطاغية لا يستمر بعد إسقاطه لأن كل فريق يبدأ فى طرح تصوره للبناء الجديد للعهد الثورى، وقد كان يمكن ولا يزال ممكنا أن يظل الإجماع معقودا على هدف واحد، وهو نقل السلطة للمدنيين عبر الانتخابات. ولكن المفاجأة الكبرى جاءت من التيارات الليبرالية والعلمانية، حيث خاضت حملة سياسية وإعلامية عاتية، لعرقلة الانتخابات العامة أو تأخيرها، تحت شعار (الدستور أولا) ثم اتضح أنهم يقصدون طبخ الدستور بين مجموعة من العلمانيين غير المنتخبين مع العسكر. وهذا الرأى مدعوم أمريكيا. ويغضب بعض العلمانيين الوطنيين عندما نقول ذلك ويقولون أننا نتهمهم بالخيانة، وهذا غير صحيح، ولكننا ننبههم لتقاطع موقفهم مع الموقف الأمريكى، وأن العداء الصليبى للتوجه الإسلامى والإصرار عليه يصب عمليا وواقعيا فى خانة الحلف الصهيونى الأمريكى، هذا الحلف الذى أعلن الحرب على الإسلام والمسلمين خاصة أولئك المقاومين منهم والساعين إلى الاستقلال الوطنى الحقيقى.
إن الإصرار على اعتبار العداء للإسلاميين والإسلام أولوية أولى، هو خيار غير وطنى، لأن الإسلاميين مواطنون لهم كل الحقوق، ومن أبسط معانى الوطنية أن نقبل بخيار الشعب، ونقول العداء لا الخلاف فى الرأى والتنافس الديمقراطى. وهذا ما لا يطرحه بعض الليبراليين والعلمانيين بل هم يحاولون اللجوء لأسلوب استبدادى لفرض رؤيتهم عن طريق الاستقواء بالمجلس العسكرى. وقد أعلن المجلس فى لقاء مع الأحزاب التى يختار الجلوس معها أنه بصدد إعداد وثيقة المبادىء الحاكمة للدستور، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الدستور. (الأهرام 15 يوليو 2011). أى أنه تمت استمالة المجلس العسكرى لهذا الخيار غير الديمقراطى. وقد كان هذا من أهم أسباب الدعوة لمليونية 29 يوليو. فالتيار الإسلامى الذى انسحب بهدوء من الميادين حرصا على الاستقرار وركز على تأسيس أحزابه والاستعداد للانتخابات، وجد نفسه مستهدفا بالحملات الإعلامية والتى اعتمدت فى كثير من الأحيان على وقائع كاذبة. ثم تطور الأمر إلى محاولة من الأقلية لوضع الدستور!!
وعندما دعونا فى حزب العمل إلى جمعة وحدة الثورة وتسليم السلطة، فإننا نعنى ما نقوله لأن الوحدة لا تكون حقيقية بدون اتفاق على موقف عملى واضح وهو: التركيز على الاحتكام لصناديق الاقتراع والكف عن افتعال مواقف لشق وحدة الصف، كالدعوة لمجلس شعبى انتقالى، لا يعرف أحد كيف نختاره! أو الدفع لتأجيل الانتخابات، وهو الأمر الذى يطيل الحكم العسكرى، ثم فى نفس الوقت يهاجمون المجلس العسكرى بمرارة، مع أن تأجيل الانتخابات يؤدى عمليا إلى استمراره لأجل غير مسمى فى الحكم. وقد ظهر تيار متعقل بين القوى غير الإسلامية، أدرك أن استمرار الانقسام ليس فى مصلحة الثورة. ودعا إلى ضرورة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. (د.مصطفى كامل السيد والسفير إبراهيم يسرى كمثال).
المبادىء الحاكمة للدستور:
وبدلا من التقدم فى عملية تسليم السلطة أدخلنا التيار العلمانى فى أحبولة المبادىء العليا أو الحاكمة للدستور، وأكثروا الحديث عنها باعتبارها من الأمور البديهية التى عرفتها كل البلاد المتحضرة والديمقراطية، وأدخلوا فى روع المستمعين لهم أنهم جهلاء إذا لم يعرفوا بحكاية المبادىء الحاكمة للدستور التى تواضعت عليها البشرية. ورغم أننا كمسلمين لا يمكن تهويشنا بهذا الكلام إذا كنا نوقن حقا بأن القرآن كتاب منزل من السماء، ومقتنعين بأن ما فيه لا يرقى إليه أى فكر بشرى فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل، ولكننا على استعداد دائم للحوار. وأن نحتكم فى النهاية لرأى الشعب من خلال صناديق الاقتراع، فهذا الأمر لا مندوحة عنه، لأن البشرية لم ولن تعرف الإجماع على كل شىء، ولابد للحياة أن تستمر برأى الأغلبية، حتى تتحول الأقلية إلى أغلبية فى وقت لاحق.
وأقول لإخواننا العلمانيين من أين أتيتم بمبدأ المبادىء الحاكمة للدستور؟ فهذه لم تعرفها تجارب الثورات الغربية، إذا اعتبرتم أنها منبع الصواب والخير والحضارة. وأشهر دستورين فى العالم الغربى هما دستورا أمريكا وفرنسا. أما دستور أمريكا فقد أقر فى فيلادلفيا عام 1787 عبر مندوبين من الكونجرس المنتخب فى كل ولاية من الولايات الثلاث عشر وكان عدد المندوبين 39 مندوبا فقط. وأقر الدستور عبر الحوار والنقاش والتوافق، وتضمن أن يكون ساريا فى حالة موافقة 9 من ال 13 ولاية، أى أن الجمعية التأسيسية أقرت بفكرة الأغلبية وليس بالإجماع. ومن الملفت للنظر أن بعض القانونيين العلمانيين قالوا إن البرلمانات لا يجوز لها أن تضع الدساتير بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر قيامها باختيار جمعية تأسيسية كما ورد فى التعديلات الواردة فى الاستفتاء. ولكننا نجد فى تجربة وضع الدستور الأمريكى عكس هذا الادعاء، نجد أن المندوبين المنتخبين أصلا فى كونجرس كل ولاية هم الذين شكلوا لجنة وضع الدستور فى فلاديلفيا. ولم يرد فيما ورد فى كتب التاريخ مضابط كاملة لحوارات فيلادلفيا، ولكن لم يرد أى شىء عن حكاية المبادىء العليا للدستور، رغم أن الحوار كان يدور بين ممثلى ولايات فى حكم الدول المستقلة عن بعضها البعض. بل والطريف أن مداولات صياغة ووضع الدستور جرت سرا حتى لا يخضع المندوبون لتأثيرات ناخبيهم. وأنها استغرقت 4 شهور فقط. كذلك فإن النص الأول للدستور الأمريكى لم يتضمن حقوق الإنسان، وتولى الكونجرس سد هذه الثغرة فيما يعرف بالتعديل الرابع عشر للدستور. وهذه التجربة تشير إلى أن الدستور كائن حى قابل للتغيير والتطور. كما يوضح أن غياب أخطر مكون للدستور وهو حقوق الإنسان كان بالإمكان تداركه سريعا. وأن صياغة الدساتير ليست نهاية العالم لأنها ليست مقدسة وقابلة للتعديل.
ما يعنينا هنا أن مسألة المبادىء العليا أو الحاكمة للدستور لم يرد لها ذكر فى هذه التجربة الأمريكية. وأن الأمور جرت ببساطة.. الأمة قامت من خلال مندوبين منتخبين بصياغة وإقرار الدستور! أما بالنسبة للتجربة الديمقراطية الثانية الشهيرة فهى تجربة الثورة الفرنسية والتى أسفرت عام 1792 عن انتخاب جمعية وطنية من 750 مندوبا وقامت هذه الجمعية الوطنية بصياغة وإقرار الدستور، ولم يرد ذكر فى كتب التاريخ لمبدأ القواعد الحاكمة للدستور!
ليست التجربتان الفرنسية والأمريكية من مراجعى الفكرية الأساسية ولست من القائلين بتتبع تجارب الغرب شبرا بشبر وذراعا بذراع، وإن كنت مع الاستفادة من تجارب البشرية جمعاء لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. ولكننى فى هذا الموطن أنفى ما يردده بعض العلمانيين فى مصر عن هذه المبادىء الحاكمة وكأنها من مقدسات التجارب الإنسانية والغربية، بينما هى لا وجود لها إلا فى أذهانهم، وأنها مجرد حيلة فاشلة لوضع العراقيل أمام المرجعية الإسلامية. وأقول لهم المشكلة ليست فى الخلاف فيما بيننا، المشكلة فى الخروج على قواعد اللعبة التى طالما دعوتم ودعونا لها، وهى الاحتكام لصناديق الاقتراع أو الديمقراطية أو الشورى. بمحاولة الاستعانة بالعسكر لفرملة أو منع خيار الشعب. فهذا هو المسلك الذى سيحدث قطيعة بيننا وبينكم إذا واصلتم السير فيه.
أما أمريكا التى تقف اليوم على أعتاب الإفلاس، فنقول لها ارفعى يدك عن الثورات العربية حتى لا تقطع هذه الثورات يدك. أنت قوة عظمى آفلة، انشغلى بمشكلاتك الداخلية، وكفى عن التدخل فى شئوننا الداخلية. هذه المليونيات تقول لك احذرى غضب الشعب المصرى، إذا لم ترتدع فاعلمى أن المرحلة الثانية للثورة ستكون صاعقة عليك وعلى مصالحك. هذه الملايين الهادرة ستكنسك، فالتزام الحذر واجب، خاصة وأن الأمة قد بلغت الحلقوم من آثار سياستك فى مصر والمنطقة، مبارك لم تكن له سياسة خاصة، بل كان منفذا لأوامر الحلف الصهيونى الأمريكى، وكل عاقل وواع فى مصر يعرف أن ثورته كانت أساسا ضد هذا الحلف المعادى.
وأخيرا نعود إلى نقطة البدء.. إن مليونيات 29 يوليو رسالة استعجال وقلق للمجلس العسكرى (سلم تسلم) أى سلم الأمانة، سلم السلطة، إلى المدنيين، تسلم من كل سوء، وتتربع على قلوب المصريين وتأخذ نياشين من عيار سوار الذهب، أما إذا لم تفعل كما وعدت فإنك ستلحق بمبارك. لم يكن هناك أى مبرر حقيقى لعدم إجراء الانتخابات العامة خلال الشهور الستة الماضية. لذلك فالأمر لا يحتمل المزيد من التسويف.
وهذه كانت الرسالة الأساسية والأصلية لهذه المليونيات فى يوم 29 يوليو.