النزعة اليمينية المسيحية المتطرفة في أوروبا قديمة قدم الحروب الصليبية, وفي العصر الحديث ارتبطت بصورة أساسية بعاملين أساسيين: الأول هو مفاوضات تركيا' المسلمة' للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي' المسيحي', والثاني هو تنامي حركة المهاجرين العرب والأفارقة إلي أوروبا. وارتباط ذلك بتناقص فرص العمل في معظم دول القارة وتعالي صوت الأفكار العنصرية المنادية بتفوق الجنس الأبيض علي من سواه من البشر. ولكن العوامل المحفزة لظهور أحزاب وجماعات اليمين المتطرف في أوروبا تزايدت في الآونة الأخيرة بصورة ملحوظة, مع تنامي قوة الجاليات المسلمة والمهاجرة في القارة البيضاء, وتعرض عدد من دول القارة لمخاطر التطرف الديني المنسوب إلي الإسلام, ومشاركة بعض الدول الأوروبية في التحالف المشارك في حربي العراق وأفغانستان, وسينضم إلي هذه العوامل في المرحلة المقبلة ثورات' الربيع العربي' التي ستزيد من موجة الهجرة من دول شمال أفريقيا إلي دول أوروبا بحثا عن فرص عمل ومعيشة أفضل في وقت تعاني فيه القارة الأوروبية واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها. بداية التوجه اليميني المتطرف في صورته الحديثة في أوروبا كانت في تسعينيات القرن الماضي, بالتزامن مع بروز خطر جماعات اليمين المتطرف في الولاياتالمتحدة عقب تفجير أوكلاهوما عام1995 بشاحنة ملغومة, والذي أسفر عن مقتل168 شخصا, وهي الحادثة التي ألصقت بالإسلام في البداية قبل أن يتضح أن منفذها هو اليميني الأمريكي المتطرف تيموثي ماكفاي, فكان ظهور جماعات' النازيين الجدد' حليقي الرءوس في ألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية, ثم بدأت التيارات اليمينية تحقق الكثير من المكاسب لها علي الصعيد السياسي من خلال قدرتها علي التأثير علي الناخبين, فجاء صعود جان ماري لوبان زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة علي الساحة السياسية الفرنسية, والذي ستكون ابنته' مارين' واحدة من أبرز المرشحات في الانتخابات الرئاسية الفرنسية العام المقبل, وهي تتعهد من الآن بإعادة المهاجرين القادمين لأوروبا بالقوارب علي نفس القوارب إلي بلدانهم! كما لا ننسي التجربة المثيرة التي جاءت بيورج هايدر إلي السلطة في النمسا قبل أن يتم استبعاده في الوقت المناسب عقب ضغوط شعبية وأوروبية ودولية. ومن بين الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة التي حققت نجاحات كبيرة في الانتخابات الأخيرة: حزب الديمقراطيين في السويد, وحزب رابطة الشمال' ليجا نورد' بزعامة أومبيرتو بوسي في إيطاليا, وحزب' جوبيك' اليميني المجري, وغيرهم. وبصفة عامة, فإن أحزاب اليمين المتطرف الآن موجودة بالفعل داخل الحكومة الإيطالية, ولها ممثلون في برلمانات كل من النمسا وبلغاريا والدنمارك والمجر ولاتفيا وسلوفاكيا, فضلا عن البرلمان الأوروبي نفسه! ولكن المشكلة أيضا أن أحزاب يمين الوسط نفسها تغازل اليمين المتطرف لكسب أصواته, خاصة أنها تدرك أن التصويت لليمين المتطرف هو خيار محبب لدي قطاع كبير من الناخبين في المجتمعات الأوروبية, ومن بين الأمثلة الواضحة علي ذلك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي! وكما سبق الذكر, فقد ساعد تنامي دور الجاليات الإسلامية في المجتمعات الأوروبية وتزايد قوتها الانتخابية يوما بعد آخر, وبخاصة في دول مثل بريطانيا وفرنساوألمانيا, وكذلك بدء مساعي تركيا للانضمام إلي الكتلة الأوروبية, علي تنامي صوت مقابل لليمين المسيحي, سواء المعتدل أو المتطرف, ولكن أحدا لم يكن يتوقع علي الإطلاق أن يصل الأمر إلي درجة قيام شاب أبيض من أبناء النرويج الأصليين بمجزرة معسكر شباب الحزب العمالي النرويجي الحاكم التي وقعت مؤخرا وأدت إلي مقتل90 وإصابة مثلهم. فهذه هي أول مرة يحدث فيها عمل كهذا في دولة مثل النرويج, وهو الحادث الأول من نوعه أوروبيا, ويوصف بأنه' أوكلاهوما الأوروبي', ولكنه جاء معبرا عن الغضب من سياسات الحكومة النرويجية الداعمة للهجرة والأجانب. كما كشفت مجزرة أوسلو عن أن ظاهرة الخوف من الإسلام أو' الإسلاموفوبيا' شغلت الغرب أكثر من اللازم لدرجة جعلته يغض البصر عن تنامي الإرهاب القادم من الداخل, متمثلا في عشرات الجماعات والمنظمات اليمينية القائمة علي أساس الأفكار الدينية المتطرفة, بل وشديدة التطرف, والتي تصل في كثير من الأحيان, كما في حالة أندريس بيريفيك منفذ عملية أوسلو, إلي درجة' تكفير' المجتمع و'تفجيره'.فالمشكلة ليست في الأحزاب, ولكن في وجود الكثير من الجماعات اليمينية التي تعمل تحت الأرض وتسميها وسائل الإعلام الأوروبية نفسها ب'الخلايا الصليبية' التي تعمل علي تغيير المجتمع لا للوصول إلي السلطة, وتتبني في ذلك وجهة النظر' الشعبية' التي تقول إن المهاجرين القادمين من شمال أفريقيا ودول جنوب وشرق آسيا تسببوا في تدني فرص العمل في بلدانهم, وفرضوا أنماط حياتهم علي المجتمعات الغربية' المسيحية' كالحجاب والنقاب والمساجد وغيرها, وها هي تركيا التي يملأ مهاجروها وأبناؤها القارة الأوروبية منذ عشرات السنين, في طريقها لأن تكون عضوا في النادي الأوروبي' المسيحي' وبالتالي, ستكون دول أوروبا كلها مفتوحة أمام زحف العمالة التركية الأرخص سعرا. وانعكس ذلك أيضا علي انتشار ظاهرة الإساءة للإسلام, فظهرت شخصيات مثل النائب الهولندي خيرت فيلدرز, والنائبة حيرزي علي, وظهرت موجة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للإسلام في الدنمارك, والقوانين التي استفزت الجاليات المسلمة في أوروبا' أيضا بهدف مغازلة اليمين المتطرف الصاعد بقوة', مثل حظر المآذن في سويسرا وحظر النقاب في فرنسا, وحظر الحجاب في حالات أخري, وغير ذلك, ووصل الأمر إلي جرائم الاعتداء والتحرش بالمهاجرين, مثل اشتباكات ميلانو, ومقتل مروة الشربيني في ألمانيا علي يد متطرف روسي. والأخطر من ذلك أن جماعات اليمين المسيحي المتطرفة في أوروبا تتواصل مع بعضها البعض بشكل مكثف هذه الأيام عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وغيره لتبادل الأفكار والنصائح, ولتنظيم مناسبات مشتركة كالمهرجانات والمؤتمرات, ومن أكثر الدول التي تشهد حركة التواصل بين هذه الجماعات: روسيا والنرويج والدنمارك. وفي بريطانيا يشكون من أن عشرات المواقع علي الإنترنت التابعة لهذه الجماعات بها كل تفاصيل صناعة القنابل والمتفجرات وصناعة واستخدام الأسلحة, تماما مثلما هو الحال مع جماعات التطرف المحسوبة علي الإسلام, مما يعني أن الجماعات اليمينية المتطرفة تسير علي النهج نفسه الذي سارت عليه' القاعدة' وغيرها, وتستلهم نفس الروح منها, ولكن في طريق آخر! أو ربما يوجد من سماسرة الحروب والصراعات ومافيا الأسلحة من يدعم الجانبين معا!