حققت عدة أحزاب قومية أوروبية، معادية للأجانب نجاحات واضحة، حيث نجح حزب " ديمقراطيي السويد "في دخول البرلمان بعد أن حصد 5.7 % من أصوات المقترعين، وفي إيطاليا شارك حزب " رابطة الشمال " المعارض للأجانب في الحكومة، كما تتمثل أحزاب اليمين المتطرف في برلمانات الدانمارك،والنمسا، وسلوفاكيا،ولاتفيا، وبلغاريا . وخلال الانتخابات الأوروبية في عام 2009، حقق اليمين الأوروبي المتطرف نتائج مشابهة في هولندا، وبلجيكا، والمجر، والنمسا، وبلغاريا، كما سجل هذا الفصيل السياسي نتائج ملحوظة في فنلندا، ورومانيا، واليونان، وفرنسا، وبريطانيا، وسلوفاكيا، الأمر الذي أثار تساؤلات حول مدي قوة اليمين المتطرف وتأثيره المتوقع علي الساحة الأوروبية، واحتمالات صعود اليمين والفاشية التي باتت تشق طريقها إلي السلطة، في وقت يعاني فيه اليسار من أزمة سياسية طاحنة . ويعد صعود اليمين المتطرف في أوروبا ظاهرة متكررة، ففي الثمانينات من القرن الماضي، حقق اليمين الأوروبي المتطرف عدة اختراقات، أثبتت أنه بات يشكل قوة سياسية لافتة علي الساحة الأوروبية . وفي معرض تناول ظاهرة صعود اليمين الأوروبي في الآونة الراهنة، فإن التفسيرات تتراوح بين تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالقارة العجوز، وقضايا التعددية الثقافية، ومعاداة الإسلام علي وجه الخصوص، بالإضافة إلي أزمة الأحزاب السياسية التقليدية والكبيرة في الدول الأوروبية . ظواهر ودلالات يلاحظ أن تنامي الشعور المعادي للمهاجرين في أوروبا ساعد علي إفراز موجة شعبية يمينية اتسع نطاقها وامتد من شواطئ البحر المتوسط إلي حدود الدول الاسكندنافية الباردة . هذا الشعور المعادي للمهاجرين في أوروبا ارتكز علي فكرة ( مسطحة ) مؤداها أن هؤلاء الأجانب هم من أهم أسباب تفاقم أزمة البطالة، وقلة فرص العمل أمام أهل البلاد الأصليين، الأمر الذي يستوجب من وجهة نظر الأحزاب اليمينية المتشددة طردهم من البلدان الأوروبية، وهي الشعارات التي رفعتها هذه الأحزاب لكسب أصوات الناخبين لصالحها في الانتخابات، مستغلين في ذلك ظروف الأزمة الاقتصادية، وسيادة حالة الاحباط من جراء سياسات التقشف التي تفرضها الحكومات الأوروبية . وفي ضوء هذه الحالة القلقة والمضطربة ، يتم استخدام " الخطاب الشعبوي "، المخل بالحقائق، والمتعامي عن أصول المشاكل، مما يجد صداه لدي شرائح من السكان لديها الاستعداد لتقبل هذه الشعارات . ومع ذلك، فإن القلق الذي صاحب صعود اليمين في غالبية البلدان الأوروبية أثار التساؤلات عما إذا كان الناخب الأوروبي يقتنع فعلا ببرامج هذه الأحزاب بعد فشل الأحزاب الوسطي أو الاشتراكية في تحقيق طموحاته، أم أن الأمر لايعدو أن يكون حالات استثنائية يتم فيها استغلال ظروف الأزمة ؟ وللرد علي ذلك يقول الباحث الأوروبي " فولفجانج كابوست " إن الأحزاب اليمينية تستغل حزمة من المخاوف تنتشر بين الناس في الوقت الراهن " ففضلا عن الأزمة الاقتصادية، هناك الخوف مما يطلق عليه " أسلمة أوروبا " الذي روج له مثلا حزب "الحرية " اليميني المتطرف في هولندا، في محاولة لكسب أصوات الناخبين، بغض النظر عن مدي واقعية هذا الشعار، حيث لايمثل المسلمون سوي 6 % من السكان . وعلي نفس المنوال، فعندما فاز الحزب الوطني البريطاني بمقعدين للمرة الأولي في تاريخه في البرلمان ، فقد وصفته مجلة الإيكونومست البريطانية بأنه حزب عنصري وفاشي، حيث تعهد الحزب بحظر القرآن الكريم، وحل البرلمان الأوروبي . وعموما، يتردد أن الاستراتيجيات الشعبوية المعادية للأجانب تجد آذانا صاغية من جانب الشعوب الأوروبية . ويجدها اليمين المتشدد فرصة لنشر نداءاته، تحت ذريعة الحفاظ علي الهوية، وحماية "أوروبا الجميلة " من الأجانب . من جانب آخر، فإن محاولات تفسير أسباب صعود اليمين الأوروبي تتجه إلي استجلاء دور الطبقة السياسية في هذا الصدد، فلا يخفي مثلا الاتهامات التي وجهت إلي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بأنه سعي إلي استمالة ناخبي الجبهة الوطنية بزعامة جان ماري لوبان، الذي حقق تقدما له دلالاته في انتخابات مجالس الأقاليم في مارس الماضي . هذا، فضلا عن تهديدات القضاء الأوروبي من جانب المفوضية الأوروبية من جراء السياسات المثيرة للجدل التي اتبعتها فرنسا تجاه الغجر . كذلك، أعرب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عن أمله في إعطاء الجنسية المجرية للأقليات ذات الثقافة المجرية، التي تقطن الدول المجاورة للمجر، مما أثار غضب الجيران الرومانيين والسلوفاكيين، ومن المعروف أن هذا الطلب هو تحديدا من أهم ما ينادي به حزب " جوبيك " اليميني المتطرف . ويقال إن قادة اليمين التقليدي المعتدل في بعض البلدان الأوروبية، استعادوا في حملاتهم الانتخابية خطاب اليمين المتطرف لكسب المزيد من الأصوات . وتتردد حاليا في الأجواء الأوروبية مقولات " طرد الغرباء " فالرئيس ساركوزي يطالب بوقف الهجرة الكثيفة إلي بلاده، وكذا فعل زعيم المحافظين ديفيد كاميرون الذي استعار خطاب الحزب القومي البريطاني المتطرف في هذا الصدد . وتمثل المشكلة الديموغرافية جانبا مهما من الهموم الأوروبية، ففي يناير 2010 وصل تعداد سكان دول الاتحاد الأوروبي إلي 1 . 501 مليون نسمة، بزيادة قدرها 4 .1 مليون نسمة عن عام 2009، ومعظم هذه الزيادة كانت نتيجة وصول مهاجرين جدد إلي دول الاتحاد، يقدر عددهم بنحو 900 ألف مهاجر، بينما كانت الزيادة الطبيعية نتيجة الفارق بين عدد المواليد والوفيات لا تزيد عن 500 ألف نسمة . ومن المؤكد أن للاتحاد الأوروبي مواقف قوية تجاه اليمين المتطرف، المعادي للأجانب ففي عام 2000 جري إقصاء النمسا عن شركائها الأوروبيين بسبب دخول ممثلين لحزب اليمين المتطرف الشعبوي " إف بي أو " للبرلمان، حتي أن الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي منعت دول الاتحاد من دعم مرشحين نمساويين لتولي مراكز في جمعيات دولية . وهنا تتساءل ماغالي بالنت المتخصصة في الشئون الأوروبية في مؤسسة " روبرت شومان " حول المسئولية التي يتحملها الاتحاد الأوروبي عن الاختراقات التي حققها اليمين المتطرف، مع إثارة المخاوف بشأن احتمالات تداعي مفهوم العيش المشترك، وتقول بالنت " إن الاتحاد لن يستطيع تجاهل الجدل حول هويته، وحدوده الجغرافية، خاصة وأن هناك اتهامات موجهة بالسعي إلي توحيد الثقافات والهويات علي المستوي العالمي " . ومن المعروف أن التيار اليميني المتطرف عموما لديه مشاعر معادية للاتحاد الأوروبي، إلي حد الكراهية، ويقول الفرنسي جان ماري لوبان إنه فرنسي قبل أن يكون أوروبيا . ويطالب اليمين المتطرف القادة الأوروبيين بحماية أوروبا من الغرباء، والحفاظ علي الهوية الأوروبية، وحمايتها خاصة من الانتشار الإسلامي . وربما تتمثل مشكلة الاتحاد الأوروبي في الدعوات المتطرفة التي تجد قبولا عاما، وتتشارك فيها أحزاب عابرة للدول . فعندما نظم حزب " من أجل شمال الراين وفستيفاليا " PRO NRW ، احتجاجات في بعض المدن الألمانية، أمام عدد من المساجد، للمطالبة برفض بنائها في ألمانيا، فقد استضاف الحزب أيضا مؤتمرا أوروبيا من أجل الدعوة لمنع بناء المساجد في أوروبا، وشارك فيه ممثلون من أحزاب يمينية متشددة من إسبانيا، وبلجيكا، والنمسا، والسويد . أبعاد الأزمة الأوروبية من التساؤلات الحرجة المطروحة حاليا في الأجواء الأوروبية السؤال حول ما إذا كان صعود اليمين المتطرف إرهاصة للعودة إلي الماضي البغيض ؟ فالكاتب الفرنسي " مارتان فيرلييه " أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة باريس، سبق أن قال إن اليمين الأوروبي المتطرف غرس جذوره في أعماق التاريخ . وكان فيرلييه يحذر من أن المد النازي الذي اجتاح أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولي، ظل يمثل وجوده مشكلة، ذات أبعاد عالمية، إلي أن أصبح أحد العناصر التي تسببت في اندلاع الحرب العالمية الثانية . ويذكر أن محطات صعود التيار اليميني المتطرف تعود أساسا إلي عامي 1946 1949 ممثلة في أحزاب ألمانية وإيطالية، ثم ظهرت مجددا بين عامي 1950 1970 وضمت اليمين الفرنسي بقيادة بيار بوجار، واليمين الألماني الذي حاز 2 % من أصوات الناخبين في 1965 ثم كانت محطة ثالثة لصعود تيارات اليمين المتطرف في 1970 في البلدان الاسكندنافية . وفي الآونة الراهنة تشير مصادر أوروبية إلي أن نسبة الأفراد المنتمين إلي تيارات اليمين المتطرف تصل إلي 5 % في ألمانيا، و10 % في بلجيكا، و15 % في فرنسا، و17 % في هولندا، وأقل من ذلك في السويد، والنرويج، والدانمارك، وفي فنلندا فإن واحدا من كل عشرة فنلنديين البالغين يؤيد "رابطة الفنلنديين الأصليين ". وتقول صحيفة اندبندنت البريطانية " إن الفاشيين يخرجون من غياهب النسيان، وإن صعود اليمين المتطرف أمر مرعب، بينما تعبر كاتلين بيرك استاذة التاريخ البريطانية عن مخاوفها بأنها لا تتصور ما يمكن أن يحدث إذا ما استولي حزب يميني متطرف علي السلطة . ويحذر استاذ علم الاجتماع أرنو كليوني من احتمالات تحول أوروبا إلي حلبة للصراع العرقي إذا ما زادت قوة الاتجاهات الفاشية . مشاهد دالة ولا تمثل هذه الارهاصات المخيفة الجانب الوحيد للمشكلة الأوروبية، فهناك الأبعاد الأخري ذات الصلة باهتزاز عرش " الأسطورة الليبرالية "، وأزمة الثقافة الأوروبية المدافعة عن الحريات المدنية، وحقوق الإنسان، والتعددية، والتي ملأت بها أوروبا العالم، وتواجه اليوم أزمة النكوص والتراجع وضياع "المثل الليبرالي ". فعندما نتابع علي سبيل المثال ما يجري في المشهد السويدي، نتبين الأبعاد الحقيقية للأزمة . فلأول مرة منذ نحو قرن، يتم انتخاب حكومة يمينية، في بلد هيمن فيه الاشتراكيون الديمقراطيون إلي حد كبير علي الساحة السياسية، وهي المرة الأولي التي يدخل فيها اليمين المتطرف البرلمان، بعد ما اجتاز حزب " ديمقراطيي السويد " عتبة 4 % من الأصوات اللازمة . وجاءت الصدمة العامة التي عبرت عنها أطراف متفاجئة بأن مساحة الاعتدال قد تراجعت، وأن القوي الظلامية، نجحت في احتجاز الديمقراطية السويدية رهينة لديها، مما يشكل مشكلة للأحزاب السياسية بشأن كيفية التعامل مع حزب " ديمقراطيي السويد "، وكيفية تسيير أمور بلد، طالما تفاخر علي مدار عقود بكونه ملاذا للاجئين . أما في ألمانيا، فإن العديد من الإشارات والعلامات تثير الغموض في بلد تشعر فيه الأجيال الشابة بأنها غير مثقلة بالتاريخ الماضي، وأنها أكثر تمسكا بقوميتها، بصورة أقوي ما تكون منذ الحرب العالمية الثانية . وعندما نشر الكاتب الألماني " تيلو سارازين " كتابه " المانيا تنتحر "، ونعت فيه المهاجرين المسلمين بأنهم " طبقة أدني وراثيا " فقد أثار ذلك مخاوف حقيقية في بلد يعتبر حتي اليوم معقلا خصبا لتنامي الشعور المعادي للآخر، خاصة الآخرالإسلامي . فإذا كانت ظروف الماضي منذ الحرب العالمية الثانية، والقوانين الألمانية، والنخبة السياسية، والأعراف الاجتماعية قد منعت نمو الأحزاب اليمينية أو فوزها بمقاعد في البرلمان، فإن رياح الأزمات والاحباط والسخط العام تساهم حاليا في تغيير معطيات المشهد السياسي . ويقول " مايكل سلاكمان " أنه إلي جانب المشاعر المعادية للهجرة، يبدو اليمين معتمدا علي الشعور الذي يسود المحافظين ومضمونه أن الحزب الديمقراطي المسيحي قد تخلي عنهم . " ومن المعروف أن الحزب الديمقراطي المسيحي هيمن علي الحياة السياسية في ألمانيا لعدة عقود، ونجح بالفعل في احتواء المحافظين واليمينيين المعتدلين، غير أنه واجه مؤخرا اتهامات بأنه لايختلف عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي الليبرالي في تنفيذ إصلاحات ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تحظر النقاش بشأن الكثير من القضايا ومنها : القومية، والدين، والأقليات، والهجرة . ويحذر سلاكمان بأن الماضي لايزال مطلا برأسه، وأن السبب الوحيد الذي يجعل من صعود حزب يميني متطرف حقيقة بارزة هو غياب أحد المكونات المهمة وهو " الشخصية الكارزمية " التي يمكن أن تتولي قيادة الجماهير، وفي اللحظة التي يتوفر فيها هذا القائد الملهم، فثمة احتمالات قوية بأن تطفو هذه الأحزاب اليمينية علي سطح الحياة السياسية في ألمانيا مجددا. وهكذا يبدو أن صعود اليمين الأوروبي المتطرف هو بصورة ما تعبير عن أزمة الأحزاب السياسية التقليدية، ليس فقط في ألمانيا، وإنما أيضا في عدة دول اوروبية حيث توجه إلي هذه الأحزاب اتهامات بأنها ترعي الفساد، وتعاني نقصا فاضحا في الكفاءة، وهي غير قادرة علي إدارة الشأن السياسي، وطرح الحلول الناجزة للمشاكل السياسية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمعات الأوروبية .