ظاهرتان متناقضتان احاطتا بمصر الثورة منذ 25 يناير الماضي حتي الآن! الظاهرة الأولي, كانت هي الانشغال الشديد لدينا نحن المصريين بقضايانا الداخلية, كنتاج وكمظهر طبيعي للثورة! فقد كان منطقيا تماما أن ينغمس الشعب المصري في أكثر ما يمكن أن يشغل أي شعب من شعوب الأرض, أي اسقاط النظام السياسي القائم واقامة نظام جديد أكثر ديمقراطية, أكثر كفاءة, وأقل فسادا محله. وهذا الحدث بلاشك يستقطب كل القوي الفاعلة في المجتمع! فالثورة- بحكم التعريف- هي حدث استثنائي ينطوي علي حرث للتربة الوطنية, وزلزال يهز من الجذور كل مكونات المجتمع, ويحدث- في فترة قصيرة للغاية- تحويلا جذريا وشاملا. وما حدث في مصر في الأسابيع القليلة التي أعقبت 25 يناير2011 كان كفيلا بأن يستقطب ويستحوذ علي جل اهتمام المصريين, فقد خرجوا بالملايين إلي شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس والمحلة وأغلب المدن المصرية, وعيونهم متجهة إلي الهدف الذي تغنو به في المظاهرات: اسقاط النظام! ليس فقط مجسدا في رأس الدولة حسني مبارك, وإنما في اسقاط والقبض علي أقرب معاونية بدءا من صفوت الشريف, وزكريا عزمي, وحتي العديد من رجال الحكم والأمن, ولم يكن غريبا أن نشرات الأخبار في الإذاعة والتليفزيون في مصر وكذلك كافة الصحف قصرت أنباءها وتعليقاتها بشكل ربما يكاد يكون كاملا علي الأخبار المصرية الداخلية, وطوال أسابيع عديدة تالية ل25 يناير لم تظهر في الصحف وفي نشرات الأخبار إشارات إلي ما يحدث خارج مصر سواء عربيا أو دوليا إلا أقل القليل! ولما لا, وصحافة وإعلام العالم كله كانت مشغولة- هي أيضا- بأنباء ثورة مصر العظيمة والمفاجئة. ونظرة واحدة إلي الإعلام الدولي, والصحافة الدولية في ذلك الحين تبدو هنا عميقة الدلالة. غير أن هذا الانكفاء المصري علي الذات, طوال أيام الثورة وما تلاها, لم يمنع أبدا من تبلور الظاهرة الثانية, أي: التأثير القوي المباشر وغير المباشر- لما يحدث في مصر علي العالم العربي! فمصر في التحليل النهائي هي جزء من كل, هي جزء من الوطن العربي الكبير, وتلك حقيقة يسلم بها العروبيون وغير العروبيين! وما يحدث لأي عضو في الجسد العربي, يتداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمي! وإذا كانت كل من القاهرة ودمشق قد وصفت في وقت ما بأنها قلب العروبة النابض فهل من المتصور أن تجري عملية في قلب الجسد العربي, ولا تؤثر علي باقي أعضائه بلا استثناء؟ تلك بالتأكيد ظاهرة ليست غريبة أو مقحمة! ولكنها تنطوي في الواقع علي تأكيد كاسح لعروبة مصر, أو هو تأكيد ثوري لعروبة مصر! بمعني أن تأثير ما حدث ويحدث في مصر علي محيطها أو مجالها العربي, هو أكبر بكثير من تأثيرها داخل المجالات الأخري الإقليمية والسياسية, مثل الشرق الأوسط وإفريقيا وحوض المتوسط.. حتي مع حدوث تلك التأثيرات فعلا. غير أن هذه العروبة التي ترمز لها مصر اليوم, تختلف كثيرا عن عروبة الخمسينيات والستينيات التي وصلت إلي ذروتها في 1958 بالوحدة المصرية- السورية, قبل أن تنكسر بسرعة في أوائل الستينيات (بالانفصال المصري- السوري). فبالرغم من أن كلا الحالتين العروبيتين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي, وفي عام 2011 هذا القرن, كانتا تحت شعار الثورة إلا أن هناك فارقا هائلا بين حالتي الثورتين: الحالة الثورية الأولي- في الخسمينيات وأوائل الستينيات- ارتبطت بزعيم كبير (جمال عبدالناصر) ظهرت حوله زعامات تقترب منه أو تتحلق حوله! كان هناك أولا الزعيم الأكبر (جمال عبدالناصر).. قبل أن تتفجر الثورات والانقلابات لتأتي بالزعماء الآخرين: شكري القوتلي في سوريا, عبدالكريم قاسم ثم عبدالسلام عارف في العراق, وجعفر نميري في السودان, وعبدالله السلال في ليبيا ثم معمر القذافي(!) في ليبيا. هذه الحالة الثورية العربية الأولي كانت حالة سلطوية ارتبطت بزعماء أفراد, أو بأحزاب عقائدية (البعث) وأيضا- وذلك هو الأهم- بانقلابات عسكرية وصفت بأنها ثورات! أما الحالة الثورية الثانية- الراهنة- فهي لا ترتبط علي الاطلاق بأي زعامات أو أشخاص أو حتي أحزاب, ولكنها حالة شعبية بامتياز! هل يعرف أحد في العالم من هو زعيم ثورة25 يناير العظيمة في مصر, أو زعماء الثورات التي وقعت في تونس أو اليمن أو الثورة العظيمة المشتعلة الآن في سوريا؟! إنها ثورات شعوب بالمعني الحرفي! إن ملايين المصريين واليمنيين والسوريين هم الذين صنعوا- ولا يزالوا- يصنعون الثورات في مدن مصر واليمن وسوريا, وهم الذين لا يزالون يقاتلون الآن بضراوة وشجاعة واستبسال في ليبيا ضد قوات القذافي المدججه بأحدث الأسلحة! بلا أسماء لقيادات ولا رموز!! وبعبارة محددة, فإن التأثير الثوري المصري الراهن في العالم العربي, إنما يتم بالدرجة الأولي من خلال تأثير النموذج الملهم والمحفز للثورة في العالم العربي, والذي تجسد في أنه أصبح لكل ثورة ميدان تحريرها!! غير أنني أطرح هنا تساؤلا أعتقد أنه مهم, ومشروع وهو هل ينبغي أن يظل التأثير المصري محصورا في دائرة زالنموذج الملهمس فقط؟ أم أنه ينبغي أن تنقل مصر تأثيرها هذا للعالم العربي بشكل أكثر إيجابية؟! هنا, فإنني أسارع لأقول أنني لا أقصد علي الاطلاق أن تتدخل الحكومة المصرية بأي حال في الشئون الداخلية للبلدان العربية الأخري بأي شكل من الأشكال! ولكنني أقصد تحديدا أمرين اثنين: الأول, أن تدخل مصر- أي القيادة المصرية والحكومة المصرية- في حساباتهما, عند تعاملاتهما الرسمية مع البلدان العربية الأخري طبيعة الحكم في تلك البلدان- كعنصر تفضيلي- في تلك التعاملات, مما يعني أفضلية التفاعل والتعاون والانفتاح علي النظم الديمقراطية العربية وفتح آفاق التعاون معها بلا حدود, بما في ذلك إمكانيات التنسيق في إطار آليات العمل العربي المشترك التي يمكن أن تكتسب زخما جديدا مع التحولات الديمقراطية العربية. أما العنصر الثاني- والأهم في نظري- فهو أنني اعتقد أنه آن الأوان للقوي الشعبية الثورية في مصر أن تلتفت إلي التطورات الثورية العظيمة الجارية من حولنا- خاصة في سوريا واليمن وليبيا- وان تعبر بأقصي قدر من الوعي والوضوح, عن تأييد نضالها العادل والمشروع من أجل التحرر من النظم الاستبدادية الجاثمة علي صدورها. إنني أحلم واتمني وأرجو أن يخصص الثوار المصريون, والشباب المصريون, وجماهير الشعب المصري.. جمعة في ميادين التحرير للوقوف مع الشعب السوري العظيم في نضاله البطولي ضد النظام المستبد والفاسد للبعث, وبشار الأسد, الذي يحصد كل يوم بالذخيرة الحية أرواح العشرات من المواطنين السوريين العزل الأبطال الذين يخرجون بشجاعة نادرة ينادون- كما نادينا في مصر- بإسقاط النظام! أحلم وأتمني مظاهرة مليونية في التحرير تختلط فيها أصوات جماهير مصر الحرة, بأغاني الوحدة المصرية السورية- الرمانسية والبسيطة والمعبرة- التي ومضت في السنوات الأولي من عمر جيلنا في الخسمينيات, ولم ننساها أبدا. أنني أحلم وأتمني وأرجو أن يخصص الثوار المصريون والشباب المصري وجماهير الشعب المصري جمعة في ميادين التحرير في مصر لتأييد جماهير الشعب اليمني العظيمة, التي لم تيأس أبدا من التدفق الي شوارع صنعاء وكافة المدن اليمنية تطالب بحريتها من النظام الفاسد لعلي عبد الله صالح والمتشبث بيأس وبحماقة بالسلطة, معتمدا علي الانقسامات القبلية والطائفية, وليس علي أي أساس شرعي! أتمني وأحلم بمظاهرة مليونية في التحرير تذكر المصريين بآلاف الشهداء من أبنائهم الذين ماتوا في اليمن دفاعا عن ثورتها ضد حكم الإمامة والتخلف. مظاهرة تقول إن لنا- كمصريين, وبحكم تضحياتنا في اليمن- حقا في المطالبة بحكم ديمقراطي هناك, تماما مثل حق الشعب اليمني الشقيق! وأخيرا أحلم وأتمني أن يخصص الثوار المصريون والشباب المصري, وجماهير الشعب المصري جمعة في ميادين التحرير لتأييد ثوار ليبيا البواسل, الذين يدخلون الآن في معارك ضارية ضد واحد من أكثر قيادات العالم جنونا وحماقة. بل إنني أضيف إلي هذا رغبة في التطهر من ذنب ارتكبه- بلا قصد- جمال عبدالناصر, عندما قال يوما أنه يري في الضابط الشاب معمر القذافي شبابه! فإذا به يحكم ليبيا بالحديد والنار, ولا يتورع أبدا عن التنكيل بمعارضيه وتعليقهم علي أعمدة المشانق في الميادين, فضلا عن عمليات الاغتيال المشينة لمعارضيه الذين اختفوا فجأة, والذين لن يضيع دمهم هباء أبدا, فضلا عن السفه غير المسبوق في تبديد ثروات الشعب الليبي الهائلة في مشتريات السلاح, والرشاوي السياسية, فضلا عن الفضائح العديدة التي لا تمثل أحداث كارثة لوكيربي إلا نموذجا واحدا لتبديد الثروات وإهدار أموال الشعب الليبي, والتي تكفي أي واقعة منها لإسقاط ومحاكمة بل ربما إعدام أي حاكم في أي بلد محترم في العالم! المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب