ما تشهده الساحة السياسية في مصر من حراك سياسي وزخم فقهي حول ضرورة وضع الدستور أولا أم إجراء الانتخابات البرلمانية وما يرتكن إليه كل فريق من أسانيد تؤيده, هو احدي العلامات البارزة علي طريق الممارسة الديمقراطية الصحيحة. إلا أن اللافت للانتباه هو احترام المجلس العسكري لرأي الأغلبية فيما أسفرت عنه نتيجة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية من إجراء الانتخابات البرلمانية, بغض النظر عن الأصوات الداعية الي وضع الدستور أولا وتأجيل الانتخابات حتي تنشأ أحزاب سياسية جديدة يمكنها المشاركة في الحياة السياسية. هذا الإصرار يعكس وعيا عميقا باحتياجات الشارع الضرورية من منظور موضوعي يعبر عن تفهم لكل متطلباته الأساسية, تعلو بكثير عن كل النظريات الفقهية والجدل الدستوري العقيم متي كان الهدف الأسمي هو مصلحة مصر, وإن كان البعض يتوجس خيفة من احتمالية فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية واحتكارهم وضع دستور البلاد, فالديمقراطية الحقيقية لا تري في ذلك عيبا متي جاءت بهم ارادة الناخبين الواجب احترامها, ومن لا يرغب فيهم فأمامه صناديق الاقتراع ليعبر عن رفضه لهم دون حاجة لذلك الانقلاب علي شرعية رأي الأغلبية والذي من شأنه لو حدث, أن يفتح الباب مستقبلا لتكرار تلك الواقعة وتكون بذلك بداية النهاية للتجربة الديمقراطية. وعلي فرض وضع الدستور أولا, فمن يضمن عدم قيام الاخوان المسلمين في حالة حصولهم علي الأغلبية في البرلمان بإجراء التعديلات عليه, وهو نفس ما حدث بتركيا, فالدستور ليس كتابا سماويا مقدسا, فهو قابل للتعديل والالغاء متي تحققت الشروط اللازمة لذلك, فالشعب هو مصدر السلطات, إن ملء ذلك الفراغ التشريعي والسياسي أهم بكثير من ذلك الجدل الدستوري, فالدوائر الانتخابية في جميع ربوع مصر في حاجة ماسة الي من يمثلها ويعبر عن مشكلاتها ويسعي لإيجاد الحلول لها, فمن غير المعقول اختزال الحياة النيابية في مصر في ميدان التحرير وعلي بعد أمتار منه توجد مؤسساتنا التشريعية خاوية علي عروشها, فضلا عن حاجة البلاد الي تعديل وإصدار التشريعات اللازمة لعملية الاصلاح ووضع الأطر القانونية لها بما يواكب المرحلة المقبلة ويدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بدلا من إلقاء ذلك العبء علي المجلس العسكري, ثم خروج أصحاب المصالح الخاصة رافضة لها, يملأون الدنيا عويلا وصراخا بدلا من توجيه الشكر علي تحمل تلك المهام الجسام في ذلك الوقت العصيب. كما أن وجود برلمان منتخب يمارس صلاحياته من متابعة سير أعمال الحكومة والرقابة عليها هو الضمانة الحقيقية لجدية تنفيذ أعمالها وخطط التنمية والوقاية من تلك الاعتراضات والمظاهرات الفئوية التي من شأنها إشاعة الفوضي وعرقلة عملية الاصلاح. لذلك يجب أن تتوافق كل القوي السياسية في مصر علي قواعد ثابتة تحكم آليات التعامل, بينما يكون هدفها الأسمي هو السعي نحو تحقيق المصلحة العليا للوطن دون الانسياق خلف الدوافع الذاتية وتخوين الآخر, فالجميع مصريون وطنيون هدفهم تحقيق مصالح الوطن والارتقاء به.