لعبة الشطرنج الكبري إذن من جديد, وقد بدأت في نهاية القرن العشرين, كما عرضنا له في حينه بهدف إحكام السيطرة الأمريكية في قلب دائرة حلف شمال الأطلنطي الغربية علي منابع الطاقة الهدف التكتيكي المباشر. من أجل تطويق طرق نقل الطاقة من الشرق الأوسط الي الصين, الدولة العظمي الصاعدة, وكذا تحجيم آسيا الشرقية وخاصة اليابان وكوريا وفيتنام. والغريب أن ادعياء الخبرة في شئون العالم أفاقوا منذ أسابيع قليلة لحقيقة أن لعبة الشطرنج الكبري عادت من جديد, بينما لم تنقطع منذ عقدين كاملين من الزمن, علي أساس أن تحرش الإدارة الأمريكية بالصين تفجر فجأة: قرار بيع6,4 بليون دولار من منظومات السلاح المتقدم الي تايوان, في لحظة زيارة الدلاي لاما الي واشنطن, وكذا رفع نبرة الحملة ضد إصرار الصين علي كامل سيادتها في مجال سياستها الاقتصادية والمالية, الي حد التلويح بخطر سياسة التسلح للصين, بينما مازال مستوي ميزانية التسلح الصينية تمثل نسبة ضئيلة من الميزانية الأمريكية. ما علاقة هذه الأجواء المفاجئة بما يحدث في دائرة العالم العربي والشرق الأوسط الكبير؟ أم أن دائرتنا معصومة من تقلبات النظام العالمي برغم أن لعبة الشطرنج جزء أصيل من تراثنا الثقافي والفني والاجتماعي؟ تري ما هو مغزي تكاثف زيارات كبار المسئولين الأمريكيين الي عالمنا العربي؟ وزير الدفاع روبرت جيتس يتنقل من بلد عربي الي آسيا الجنوبية, أمير البحار مولين, رئيس هيئة رؤساء الأركان المشتركة الأمريكية, يركز علي العواصم العربية, بينما تنطلق هيلاري كلينتون, الي منطقة الخليج تنثر الابتسامات والضحكات الي حد الزغردة, لإخفاء جوهر رسالتها التي قالت عنها نيويورك تايمز المقربة من الحزب الديمقراطي الحاكم إنها تكرار لأفكار حملتها الانتخابية, إذ تمثل اتجاها يمينيا متشددا استفزازيا يختلف عن توجه الإدارة الأمريكية الرئيسي, وراء الضحك والقهقهة قادت هيلاري فكرة اقامة مظلة أمن كانا قد عرضتها الصيف الماضي في آسيا وراحت تعرضها رسميا في أثناء اقامتها في قطر, وقد لاحظت نيويورك تايمز ان انتقال إدارة أوباما من الدبلوماسية الي الضغط أي الاتجاه الي تبرير فرض عقوبات قاسية علي إيران هي سياسة اتجهت الي الاقتراب من الخط المتشدد الذي نادت به السيدة كلينتون في أثناء حملتها الرئاسية الفاشلة. هذا كله بينما استمر مسلسل العمليات المسلحة في اليمن, وقد رأيت أن نراجع ملف كتابات خبراء القضية اليمنية, وهنا بدأ مسلسل أخبار غريبة كاشفة: 1 الجنرال بيترايوس, قائد القيادة المركزية الأمريكية, يزور صنعاء يوم16 يناير ويعلن قرار أمريكا رفع معونتها لمحاربة تنظيم القاعدة, وكذا تدريب القوات اليمنية في هذه الحرب الجديدة, هذا بينما أشارت التطورات الأخيرة الي تنامي التوجه الأمريكي الي الصومال وكينيا بهدف السيطرة علي سواحل المحيط الهندي الغربية كلها, بعد أن أعلنت الصين الي حاجتها عن اقامة قاعدة بحرية في هذه المنطقة, في نفس الوقت الذي أشارت روسيا الي مشروع إعادة تشغيل قاعدتها في عدن, ومعني هذه التحركات الأمريكية السريعة أن الطريق الوحيد الذي مازال مفتوحا أمام الصين بين آبار النفط في الشرق الأوسط وغرب المحيط الهندي الي الصين انما هو ساحل إيران, حيث يمكن اقامة قاعدة بحرية تواكب القاعدة البحرية الرئيسية في هذه المنطقة, أي ميناء جوايدار في باكستان الشمالية. نعود الي اليمن, لنطلع معا علي الأوراق المتاحة, الرئيس علي عبدالله صالح كان قد أعلن منذ عام: تم القبض علي خلية إرهابية وسوف يدفع بها الي المحاكم نظرا لروابطها مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلية, ثم لم يسمع العالم شيئا عن هذا الموضوع. إن نظرة واحدة الي الخريطة تبين أن الدولة الصهيونية لا تملك منفذا الي منطقة الخليج, ولعل الدولة الصهيونية تتصور أن اليمن يمكن استعماله كقاعدة لمهاجمة إيران من الجنوب, في تواكب مع ساحة كردستان العراقية شمالا, في حال اندلاع هجوم أمريكي علي هذا البلد, هذا بالإضافة الي أن السيطرة الأمريكية علي ميناء عدن لها مغزي آخر, أبعد بكثير من مجرد السيطرة علي البحر الأحمر, مرة أخري ننتقل الي الخريطة نتساءل: ماذا لو تم تحكم الولاياتالمتحدة علي عدن وكذا علي مضايق مالاكا بين ماليزيا واندونيسيا؟ ألا يعني هذا التحكم المطلق علي المنفذين الوحيدين لتحرك ناقلات النفط والملاحة من دائرة الشرق الأوسط الي الصين؟ ثم: ما القول في تحول الهند الي الحليف الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة, التي وافقت علي منح الهند وحدها بين الدول حق استعمال ما يطلق عليه التكنولوجيا المزدوجة, أي السماح باستعمال تكنولوجيا الطاقة الذرية في مجال التسلح النووي؟ الهدف واضح لا غبار عليه: إذ تمنح الولاياتالمتحدة هذا الحق الفريد للهند, فمعني ذلك أنها تسعي لتنمية تخوف الهند وعدائها الضمني المكبوت ضد الصين, ومن هنا بدأ عدد من كبار خبراء الجيوسياسة يتحدثون عن صياغة محور ثلاثي أمريكي هندي إسرائيلي, لحصار الصين, والمنسق هنا كان وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس, يعمل بذكاء وصمت لاقامة هذا المحور الجديد لتأمين السيطرة الأمريكية علي المحيط الهندي والخليج وشبه الجزيرة, والملفت أن الهند بدأت تتحرك تحت هذا الغطاء الجيوسياسي بدلا من الوجود البحري في عمان, بينما تسعي الهند في الوقت نفسه الي عودة الوئام الي العلاقات بين الولاياتالمتحدة وسيريلانكا, هذا في اللحظة التي وافقت حكومة سيريلانكا علي منح الصين حق توسيع ميناء هامبانتوتا, وهو في قلب منطقة مسقط رأس الرئيس راجاباكسا الذي فرض الهزيمة علي التاميل ويحكم سيريلانكا بيد من حديد دون منازع, الميناء الجديد سيكون قاعدة بحرية كبري في جنوب المحيط الهندي, هذا بينما يوشك اتمام إعداد ميناء كياوكفيو علي ساحل ميانمار( بورما) الغربي ليكون قاعدة بحرية صينية كبري في هذه المنطقة, بالإضافة الي استعمال قاعدة ميناء شيتا جونج في بنجلاديش بعد توسيعها. هذه باختصار شديد المعالم الرئيسية للدائرة الخارجية التي تحاصر ساحة الصراع أي الشرق الحضاري كله وفي قلبه آسيا وتمثل في آن واحد الساحة التي في مقدورها أن تتحكم في شريان حياة صعود الصين السلمي, خاصة معدلات التنمية الاقتصادية التي تفردت بها الصين في تاريخ الاقتصاد العالمي علي امتداده عبر القرون, أي في كلمة: إجهاض ظهور الصين قطبا عالميا جديدا في العالم الجديد متعدد الأقطاب. ولكن هناك ساحة داخلية, وفي قلبها أفغانستان في علاقة عضوية بجنوب آسيا وخاصة باكستانوإيران, وكذا تلاحم هذه الدائرة الوسطي الملتهبة بتركيا وعالمنا العربي غربا, ثم روسيا وامتدادها عبر سيبيريا شمالا, وكذا دائرة آسيا الشرقية كلها شرقا. وهنا تبدأ سلسلة من التساؤلات ترتفع الي مستوي أهمية أهداف الحرب في العراق وأفغانستان. السؤال الأول عن أهداف تحرك الصين في آسيا الوسطي, وليس فقط في أفغانستان, أي علي امتداد مجموعة منظمة شانجهاي للتعاون ثم: ما هي صورة العلاقة المتنامية بين روسيا والصين في آسيا الوسطي والشرقية علي امتداد سيبيريا؟ يتلو ذلك سؤال بالغ الأهمية مغمور في الكثير من الأحيان: ما العلاقة بين توجه اليابان في عهد الرئيس هاتوياما نحو الساحة الآسيوية ومركزها الصين من ناحية, وبين تأمين شريان حياة اليابان من دائرة النفط عبر المحيط الهندي وخليج مالاكا الي موانيء اليابان وترسانتها الصناعية نفس الشريان الذي يتحكم في صعود الصين؟ قال صاحبي: أفهم من كلامك أن ساحة لعبة الشطرنج الكبري امتدت من وسط آسيا الي الجنوب.. بمعني أصبحت تحاصر مداخل البحر الأحمر وتتحكم بالتالي في الملاحة عبر قناة السويس... الطوق يقترب.. أسألك: أين نحن من هذا كله؟ ماذا تريد؟ الي أين نتجه؟ الي أين؟ ومع من؟... [email protected]