طال الفراق, أو هكذا استشعر صاحبي بينما رحت أتجول في أركان لعبة الشطرنج الكبري في مطلع وعلي ساحة عالمنا الجديد. قال صاحبي, بعد أن قصد قاعة مجلسنا من باب اليمين كالمعتاد. هذه المرة في ساعة مبكرة: طال الفراق, وأنت تتجول في ساحات الصراع حيث يقتحم الجديد مناورات والعاب القديم, أسألك دون مواربة: لماذا التركيز علي ساحة الصراعات في قلب آسيا؟.. ألا يكفينا ما نحن فيه...؟ ما نحن فيه, علي حد تعبير صاحبي, ليس بجديد علينا, إنه مرتبة جديدة من الضياع الذي أصابنا منذ أن دفعت بنا الأوهام الي خارج دائرة سياق العالم الجديد بينما نحن في قلبها. الأوهام التي ساقتنا الي الضياع بدأت في نهاية السبعينيات من القرن العشرين بينما اقتنع من بيدهم الأمر آنذاك أن99% من أوراق اللعبة في قبضة الحليف الأمريكي المهيمن, والغريب في الأمر لم يكن أن هناك قوة عظمي مهيمنة في الأساس علي منطقتنا, وكنا في مرحلة بداية تأزم القوة العظمي الثانية, أي الاتحاد السوفيتي, وانما في حكاية تحديد النسبة بأنها99%, هذا أولا, ثم ثانيا الغريب أننا أجمعين, أي شعوب ودول دائرتنا الملتهبة, لا نملك أي شيء له فاعلية, عدا البترول عند أصحاب الآبار. ومادام أن أمورنا ومستقبلنا في أيدي دولة ال99%, فلا داعي لبناء قوتنا الذاتية ولا الاستمرار في مسيرتنا الوطنية التحريرية, لا داعي للاجتهاد, وكذا لا مجال للجهد والبحث وشحذ الهمم, وكأن دولة الهيمنة الأمريكية تمتلك مستقبل الدنيا, نعيش بفضل معونتها وفتات عوائد العمالة في صحاري البترول. * صاحبي يتساءل: حدثني: من أين اهتدينا الي هذه المقولة التي هي في الواقع في مكانة الأسطورة, ولا أقول الخرافة في تاريخ الدنيا كما عرفناها وكما طالعنا أحوالها منذ القدم؟. صاحبي يقترب من البؤرة المغلقة الغامضة, بدأت الحكاية منذ بدايات الفكرة الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, ثم اتسع شأنها الي عموم دول ومجتمعات الغرب, استقرت الأمور الي أن هذا الجديد الطالع لا يمثل إلا أقلية حركية بينما السيطرة بين أيد أمينة, ألا وهي الدول الرأسمالية والاستعمارية والامبريالية الغربية. وعندما تصاعد حراك الموجة لمواصلة نهضة مصر بدءا من ثورة1919, ثم تحركها الجديد عام1935 حتي تقدم فكرة الجبهة الوطنية المتحدة في الأربعينيات من القرن العشرين, اتجه رأي الطلائع السياسية في مصر الي أن الامبريالية الغربية لابد أن تتحرك لإجهاض ثاني مراحل نهضة مصر, تماما كما فعلت طول عام1840 لكسر وثبة نهضة محمد علي الكبري. وعند هذا الحد أدرك القطاع الثوري من نهضة مصر المعاصرة أن الامبريالية العالمية سوف تعمل علي اقامة قاعدة استراتيجية وحضارية علي حدود مصر لاجهاض التحرك النهضوي المصري الثاني, خاصة وقد امتد الي معظم دائرة العالم العربي, وبالفعل, تم تقسيم فلسطين واقامة الدولة الصهيونية التي نظر إليها معظم المفكرين والثوريين علي أنها قاعدة للامبريالية الأمريكيةوالغربية, أي أن القطاع المتقدم الأوسع من الطلائع المصرية, وكذا العربية, أدرك أن القاعدة الاستراتيجية والحضارية العدوانية علي حدودنا وفي قلب العالم العربي أي الدولة الصهيونية هي في الحقيقة أداة للامبريالية الأمريكيةوالغربية لكسر الموجة الثانية لنهضة مصر في الأساس. * صاحبي يقاطعني: أليست هذه طبيعتها.. أم ماذا؟.. الأسطورة أن الدولة الصهيونية الناشئة أداة للامبريالية الغربية, وقد بدأ الغرب يدرك, قبلنا في واقع الأمر, أنها قوة فكرية وحركية تعمل في قلب المجتمعات الغربية بهدف منع تكرار حملات التميز والاضطهاد التي واجهتها الأقليات اليهودية في الغرب, وقد بلغ هذا الاجتهاد المتصل في التأثير علي مفاتيح الفكر, وبالتالي القرار, بدرجات متفاوتة بطبيعة الأمر في قلب الدول والمجتمعات الغربية قاطبة, وبديهي أن إمكانات التوغل والتأثير بلغت أوجها في الولاياتالمتحدة بوصفها دولة صاغتها موجات متعاقبة من المستوطنين والمهاجرين بحيث كان من الممكن لأية جماعة متماسكة تجمع بين التراث الديني والارادة المستقبلية والتضامن, أن ترتقي الي مكانة مركزية تدريجيا في قلب الدولة العظمي الجديدة. * صاحبي يواصل التساؤل: ولكن, حتي لو هذا الوصف مقبولا, فكيف تفسر تناقض المواقف بين الحزبين الكبيرين في دولة الهيمنة الحالية؟ كنت انتظر هذا التوجه الي قلب ضياع الفكر في ديارنا بالنسبة لأمور الهيمنة والتحرر, اكتفي المهتمون بالدراسات الأمريكية الي نقل المقولة السائدة هناك, وكذا في أوروبا, ألا وهي: ان الحزب الديمقراطي يمثل الاتجاه التقدمي بوجه عام, بينما الحزب الجمهوري هو حزب الرجعية واليمين, انتشرت هذه المقولة في ديارنا علي أيدي آلاف خريجي الجامعات الأمريكية ورواد مراكز البحوث والمعجبين بالصحافة والاعلام الي درجة أنهم آمنوا, وهنا أود أن أعبر عن تفهمي لهذا الموقف دون التبرير أن واقع حقيقة الأمر هي علي هذا النحو, ولكن واقع الأمر قدم لهم, ولنا أجمعين, الصدمة تلو الصدمة, بحيث تزلزل بنيان الدعاية الأمريكية, واصيبت مرآة الشخصية الأمريكية المتوهمة بجراح, مثلا, ثار ضمير الأحرار في العالم لنصرة شعب وأمة فيتنام في مواجهة الحرب العدوانية الأمريكية, التي حلت محل الاستعمار الفرنسي(1946 1954) واستمرت من1961 في أثناء حرب فيتنام الثورية عام1975 بعد أن أودت بحياة ثلاثة ملايين نسمة وخراب البلاد, لم يدرك المعنيون بالأمر أن الحزب الذي أعلن الحرب انما هو الحزب الديمقراطي برئاسة لندون جونسون, وأن الرئيس الذي أوقفها هو الرئيس نيكسون من الحزب الجمهوري. هذا وبينما استمرت الولاياتالمتحدة في تأييد المرشال شيانج كايتشي, رئيس الحزب الوطني حليف الولاياتالمتحدة, المنهزم علي أيدي ثورة الصين المظفرة بقيادة الحزب الشيوعي الصيني حول لواء ماو تسي تونج ورفاقه بعد ملحمة المسيرة الطويلة. أدرك المحور العسكري الصناعي, صاحب المصلحة الحقيقية في الولاياتالمتحدة, حول الحزب الجمهوري, أنه لابد من وضع حد لهذه الحماقة السياسية والنزيف العسكري إذ قرر أن يتجه الرئيس نيكسون الجمهوري, ووزير خارجيته كيسنجر الي بكين للاعتراف بجمهورية الصين الشعبية(1972), من هنا بدأ الحوار التاريخي بين القوتين الرئيسيتين في مطلع مسيرة صياغة عالمنا الجديد. * صاحبي يتعجل خلاصة القول: يعني أفهم منك أن الولاياتالمتحدة لا تملك ال99% من أوراق حاضرنا ومستقبلنا, دعنا من ساحات العالم الطالع الكبري؟... صديقي أدرك جوهر الموضوع: 1 دولة الهيمنة الأمريكية لم تعد اللاعب الرئيسي في ساحات كبري, ومنها دائرة لعبة الشطرنج الكبري في قلب آسيا, ولا في آسيا الشرقية حول الصين, ولا في القارة الأوروبية حيث التقارب بين روسيا وألمانيا, ولا في أمريكا اللاتينية حيث تجمعت32 دولة في اتحاد أمريكي لاتيني حول ريادة البرازيل وفنزويلا في مطلع مارس2010. 2 وكذا الأمر في دائرة الشرقالأوسط الكبير, حيث بدأت تركيا تتحرك في اتجاه العالم العربي وبناء الجسور مع إيران والأمل في المشاركة مع مصر, وفي كلمة: لم تعد الدولة الصهيونية قادرة علي التحكم في مصائر هذه الدائرة عظيمة الأهمية في مجال مصادر الطاقة, وكذا المشاركة مع معظم آسيا الطالعة الي دائرة الشرق الحضاري الكبري. 3 وفي دولة الهيمنة الأمريكية, يتجه الحزب الديمقراطي, الذي تحركه القوي الصهيونية في وئام مع المهاجرين الأوروبيين في الساحل الشرقي, حول هيلاري كلينتون الوجه الطالع في هذه الجبهة, هذا بينما يواصل الحزب الجمهوري الاصرار علي الواقعية السياسية لصياغة مكانة الهيمنة الأمريكية, كما يعبر عنها قطاع الدفاع حول وزير الدفاع جيتس ورئيس هيئة الأركان العامة المشتركة ايدالجار مولن. إن الباب مفتوح علي مصراعيه لتنوع التحليل وتقويم مختلف القوي. حسنا, وانما واجبنا الوطني يجعل لزاما علينا أن نسعي لفهم جديد لعالم علي تنوع قواته وساحاته ومراكزه وثقافاته بعيدا عن أوهام نظرية ال99%. قال صاحبي: يعني أن شم النسيم هذا العام يفتح الأبواب واسعة للتخلص من الأوهام, ومصارحة النفس؟.. يعني رأيك أنه من الواجب, وكذا من الممكن, أن تعيد مصر ترتيب أوراقها؟.. أراك تبتسم: وكل عام وشعب مصرنا الحبيبة بخير!.. [email protected]