لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت إن إعلان, وثيقة الأزهر يوم الاثنين الماضي 21 يونيو 2011 كان من أهم الأحداث التي عرفتها مصر الثورة, أي مصر ما بعد 25 يناير 2011 حتي اليوم, فضلا عن أنها سوف تأخذ موقعها المتميز في تاريخ الأزهر الحديث بلا أي شك! حجتي فيما أقول بسيطة. فمنذ يوم 11 فبراير حتي اليوم أي طوال ما يقرب من خمسة أشهر بعد انتصار الثورة بسقوط نظام مبارك- فإن القضية الأساسية التي سيطرت علي الحياة العامة في مصر, والمتعلقة بصياغة النظام السياسي المصري الجديد, بعد سقوط النظام القديم, كانت هي قضية العلاقة أو الصراع أو التنافس- بين القوي الإسلامية, خاصة قوي الإخوان المسلمين, والقوي الأخري المدنية. ولم يكن ذلك أمرا غريبا أو مفاجئا! وكما ذكرت ذلك في أكثر من مناسبة, ففي كل مرة كنت ألتقي فيها قبل ثورة 25 يناير- أيا من الباحثين, أو الصحفيين, أو الدبلوماسيين الأجانب, وعندما كنت أتحدث عن آمالنا وسعينا من أجل إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في مصر, كان الرد الجاهز هو: وماذا لو جاء الإسلاميون إلي الحكم؟ أو وماذا لو قفز الإخوان المسلمون إلي السلطة؟.. إلخ. وكانت إجابتي دائما هي أنه إذا قام نظام ديمقراطي حقيقي في مصر, فسوف يتعين علي القوي السياسية كافة: إسلامية كانت أو ليبرالية أو اشتراكية أو قومية... إلخ, أن تكيف نفسها مع مقتضيات هذا النظام, وأن تقبل بقواعده, وأن تتاح للشعب الفرصة الحقيقية للاختيار, وبعد ذلك لا يكون أمامنا سوي احترام إرادة الشعب! فتلك هي الديمقراطية! وفي واقع الأمر, فإن تلك القضية سيطرت فعليا- علي الجانب الأعظم من المناقشات والمحاورات التي تفجرت في مصر بعد الثورة, خاصة في المنتديات الكبيرة الثلاثة: الحوار الوطني (د. عبدالعزيز حجازي), والوفاق القومي (د. يحيي الجمل), والمجلس الوطني (د. ممدوح حمزة). وفي كل من تلك المجالات, وغيرها, كان موقع وموقف القوي الإسلامية بشكل عام, والإخوان المسلمين بشكل خاص, مسألة ملتبسة وحساسة, ومقبولة أو مرفوضة بدرجات متفاوتة. فالجماعة أي جماعة الإخوان المسلمين- تخلط الدين بالسياسة, والدعوي بالحزبي, انطلاقا من شعاراتها التقليدية المعروفة! وكان ذلك الخلط نفسه هو أهم أسباب محنتها في أغلب سنوات عمرها الذي يقارب التسعين, أي أهم أسباب ملاحقتها ومطاردة وسجن قياداتها وأعضائها, ولم يكن ذلك الخلط بين الدين والسياسة علي مستوي الأفكار فقط, وإنما علي مستوي التنظيم وآليات العمل. غير أن المناخ الديمقراطي المنفتح الذي تجد جماعة الإخوان نفسها فيه, لأول مرة في تاريخها, كان لابد أن ينعكس ليس فقط علي الإخوان المسلمين, وإنما علي جميع المؤسسات ذات الصلة المباشرة بالدعوة الإسلامية, لإعادة صياغة الأدوار والهياكل والمؤسسات علي نحو ينسجم مع مقتضيات ذلك التحول العظيم. فعلي مستوي التنظيم, كان من المنطقي تماما أن ينشأ حزب الحرية والعدالة ليكون حزبا سياسيا كاملا وشرعيا معبرا عن فكر سياسي ذي مرجعية إسلامية, بما يفترضه ذلك- ويفرضه في المقابل- من ابتعاد الجماعة عن السياسة, وتفرغها فقط للدعوة الدينية, وهي مسألة لن تحدث بسهولة ويسر, وسوف تجد بالقطع مقاومة من الكثيرين. ويعني ذلك أيضا ألا يمارس الحزب دعوته السياسية من المساجد, وأن تنزع برامجه إلي مواجهة قضايا الاقتصاد, والتعليم, والبحث العلمي, والصحة, والإسكان, والبيئة... إلخ, وليس فقط إضفاء الطابع الديني علي المجتمع. في هذا السياق السياسي والاجتماعي, أتت وثيقة الأزهر في موعدها تماما, لتعيد كثيرا من الأمور إلي نصابها بعد طول غياب! فقد أعلنت وثيقة الأزهر ابتداء- بشكل واضح لا لبس فيه أنه إذا كان من الصحيح ألا يحتكر أحد الحديث باسم الإسلام, فإن من الصحيح أيضا أن الأزهر بتاريخه العريق, بأبعاده العلمية والحضارية والعملية المختلفة, هو الأقدر والأجدر بهذا الحديث, الذي برز علي وجه الخصوص- من خلال علمائه وأعلامه الأجلاء منذ حسن العطار, ورفاعة الطهطاوي, ومحمد عبده.. حتي مصطفي عبدالرازق, وشلتوت وغيرهم. تلك قضية عانيناها- بل عاناها العالم الإسلامي بأسره- طوال نصف القرن الماضي علي الأقل, حيث تدهور الأزهر, وتدهور مستوي رجاله وخريجيه, مما انعكس مباشرة علي الدعوة الدينية, وعلي المتصدين لها! وآل الأمر إلي أن أخذ أعضاء التنظيمات والجماعات الإسلامية يزيحون الأزهريين من منابرهم ليحلوا محلهم, ويستبدلوا بالخطاب الإسلامي, المعتدل الرصين, خطابا متطرفا حادا! إن وثيقة الأزهر من تلك الناحية- توحي بأن الأزهر تنبه أخيرا إلي الأثر السلبي المروع الذي أحدثه خروجه من ساحة الدعوة الإسلامية, التي اقتنصتها قوي أخري شابة وفتية ومتطرفة! غير أن حل تلك المعضلة لن يكون بمجرد صدور الوثيقة الأزهرية, وإنما في بذل جهد شاق ومدروس لإعادة اجتذاب العناصر البشرية المتميزة من التلاميذ للدراسة بالأزهر أقصد تحديدا كليات الدراسات الإسلامية: الشريعة, وأصول الدين, واللغة العربية, لا أن تجذبهم كليات الدراسات المدنية (مثل الطب, والهندسة, والعلوم, والتجارة... إلخ).من ناحية أخري, وإذا كان الإخوان قد تحايلوا لحل مشكلة اختلاط ما هو دعوي بما هو سياسي, بتكوين حزب سياسي (الحرية والعدالة) يمارس عمله بعيدا عن الجماعة, فإنه يتعين علي الأزهر أن يتذكر أن عليه أن يفصل بين دوره الأساسي, التعليمي والدعوي, ودور سياسي عليه أن يتجنبه كمؤسسة! فالأزهر ليس حزبا سياسيا. هنا, ومن خلال هذا الفهم فقط, يمكن تقدير وثيقة الأزهر كوثيقة أعدتها كوكب من المثقفين المصريين- علي اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية مع عدد من كبار العلماء والمفكرين في الأزهر الشريف وفقا لما جاء في مقدمتها. ولا شك في أن تلك الوثيقة تشرف رجال الأزهر, وتستعيد للأزهر كما ذكرت الفاينانشيال تايمز(24/6)- دوره الفكري ونفوذه العالمي: فهي تدعم سلطة الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة, وتعتمد النظام الديمقراطي القائم علي الانتخاب الحر المباشر, وتلتزم بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي والاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل, وتؤكد احترام آداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار, وتشدد علي اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبث الفرقة والتنابذ بين المواطنين, وتؤكد المواثيق والقرارات الدولية التي ارتبطت بها مصر, وتؤكد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة وللأديان السماوية الثلاثة, وتشدد علي اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة قاطرة لتقدم مصر الحضاري, وتشير إلي أولوية قضايا التنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية ومواجهة الفساد والاستبداد, وإلي أهمية علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي والإفريقي والعالمي... إلخ. غير أن علينا هنا أن نعيد الفضل في هذا الإنجاز لأصحابه, أي أولئك الرجال من مثقفي مصر والأزهر, الذين وضعوا هذه الوثيقة, وعلي رأسهم اثنان, أولهما: الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب, شيخ الأزهر, الذي بادر بفكرة تلك الوثيقة, والأستاذ الدكتور/ صلاح فضل, الناقد الأدبي الكبير, الذي لعب الدور الأكبر في صياغتها. ويلفت النظر أن كليهما يجمع بين الانتماء الأزهري والعلم الأزهري, وبين الدراسة الحديثة في الخارج في أوروبا- والانفتاح علي الثقافة الغربية وتقاليدها الديمقراطية. فالأول د. الطيب, ابن الصعيد (دشنا قنا) جمع بين تعليمه الأزهري في معاهد الأزهر وجامعته, وبين تعليمه في فرنسا وحصوله علي الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس. والثاني د. صلاح فضل, ابن وجه بحري (شباس المنوفية) جمع أيضا بين تعليمه الأزهري العام (وإن كان تلقي تعليمه العالي في دار العلوم المنافس التقليدي لكليات الأزهر!) وبين تعليمه في إسبانيا وحصوله علي الدكتوراه من جامعة مدريد. ليس غريبا إذن أن تكون تلك العقليات المتفتحة- وغيرها كثر تظهر أسماؤهم فيمن أعدوا الوثيقة- هي التي تعي وتبادر بأهمية أن تعود للأزهر مكانته العلمية والأدبية, وأن يملأ فراغا في الدعوة الإسلامية, حاولت قوي أخري كثيره أن تملأه, وأن تجتهد من ناحية أخري- في تقديم رؤيتها في قضايا السياسة والحكم في العالم الإسلامي, ليس أبدا من منطلق أن يتحول الأزهر كما خشي ذلك عن حق الأستاذ صلاح عيسي (المصري اليوم 25/6)- إلي سلطة دينية, وإنما بالأحري- أن تمنع وتحول دون أن تسعي أي قوة أو جماعة إسلامية إلي سلطة سياسية باسم الدين. المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب