عندما اختارني فاروق حسني للعمل معه أمينا عاما للمجلس الأعلي للثقافة, اتفقت معه علي تطوير عمل هذه المؤسسة الثقافية بالغة الأهمية, لكي تغدو وسيلة فاعلة لإعادة العرب ثقافيا إلي مصر وإعادة الثقافة المصرية إلي انتمائها العربي. وأعلنت في ذلك الوقت أن محاور العمل الثقافي في مصر, سوف تقوم علي ثلاث دوائر متداخلة, أولاها الدائرة المحلية التي تفتح أفق الحوار الثقافي لمشاركة كل التيارات الثقافية المصرية, علي أساس من مبدأ المواطنة, دون تمييز بين تيار وآخر, أو إقصاء لأي تيار ثقافي مهما كان, وثانيتها الدائرة القومية التي جعلت المجلس الأعلي للثقافة مجلسا أعلي للثقافة العربية كلها بلا حدود أو قيود من أي نوع أما الدائرة الأخيرة فهي التي تنفتح علي العالم كله, شرقه وغربه, مؤكدة أن الثقافة المصرية العربية هي ثقافة إنسانية بالضرورة, وأنها بقدر ما تأخذ من العالم تمنحه من إبداعها العظيم ممثلا في نجيب محفوظ الذي حصل علي جائزة نوبل سنة 1988 وكان هذا البعد الإنساني هو الأصل في دعوة كبار أدباء العالم ومفكريه لزيارة المجلس والحوار مع المثقفين من أعضائه وغير أعضائه, وذلك في موازاة إنشاء المشروع القومي للترجمة الذي يستحق حديثا منفردا. وظلت مشكلة تؤرقني, كنت أراها بمثابة منقصة لا تليق بمكانة مصر الثقافية, وهي جوائز الدولة التقديرية التي وجدتها علي النحو التالي ألف جنيه للجائزة التشجيعية, وخمسة آلاف للجائزة التقديرية وكانت هناك لجنة تشكلت من عدد من الأساتذة الكبار, أذكر منهم إسماعيل صبري عبد الله, وأحمد خليفة, وإبراهيم بيومي مدكور, وسليمان حزين, رحمهم الله جميعا, لإنشاء جائزة كبري تمنح لكل من المصريين والعرب بعنوان جائزة النيل وقد ورثت هذا المشروع ضمن ما ورثته من مشروعات الرعيل العظيم من الأساتذة الأوائل لأعلام المجلس الأعلي للثقافة وقررت في داخلي أنه لا يمكن تحقيق حلم هؤلاء الأساتذة العظام إلا بتغيير صيغ الجوائز كلها لكن كيف السبيل إلي ذلك وتغيير الجوائز لا يمكن أن يتم إلا بإصدار مرسوم من مجلس الشعب, مصدقا عليه من الرئيس السابق ولم يكن هناك مفر من الانتظار إلي أن يحين الوقت المناسب وهنا ظهر النائب السابق محمد أبوالعينين الذي كان يسعي إلي تحسين صورته برعاية الآداب والفنون وعلوم التكنولوجيا المتقدمة. وتقدم النائب محمد أبو العينين بمشروع تطوير الجوائز الذي وضعته, ودعمه بكل اتصالاته التي تبدأ من الرئيس السابق ولا تنتهي بحظوته الحزبية في الكيان الفاسد الذي كان اسمه الحزب الوطني وناقشت لجنة المقترحات المشروع في مجلس الشعب, واستطعت بحماستي المدعومة بحماسة محمد أبوالعينين الذي انتقلت إليه عدوي الحماسة النجاح في إقناع أعضاء اللجنة للمشروع الذي أحالوه إلي لجنة التربية والتعليم للنقاش وكان الأمر سهلا في هذه اللجنة, ووافق أغلب أعضاء اللجنة علي المشروع ولكن أبي مندوب مصلحة الضرائب الموافقة علي أن تكون القيمة المالية للجوائز معفاة من الضرائب وقد أصررت علي ما ذكرته في المشروع من ضرورة الإعفاء, فمن غير المنطقي أن تستقطع الدولة ضرائب ممن تقوم بتكريمهم وتشجيعهم علي المزيد من الإنجاز العلمي والثقافي وظللت أدافع عن حق المثقفين والعلماء في القيمة الكاملة للمكافأة, بينما رئيس مصلحة الضرائب لا يبدي أي قدر من المرونة ولحسن الحظ, دخل الدكتور مفيد شهاب, وتربطني به صلة طيبة, منذ أن كان رئيسا لجامعة القاهرة, واستجاب الرجل لحماستي, فقام بالدفاع عن وجهة نظري, وعندما تحجج رئيس مصلحة الضرائب بأنه لا يملك سلطة الموافقة, قام الدكتور مفيد شهاب بمكالمة وزير المالية بالمحمول, وأعطي المحمول لرئيس مصلحة الضرائب الذي تغير موقفه بعد المكالمة, وأعلن موافقته علي النص الخاص بإعفاء الجوائز من الضرائب وبعدها أصبح الأمر يسيرا, وفرح الصديق فاروق حسني فرحا صادقا بما وصلت إليه, وأوكل لي المتابعة في عرض المشروع علي مجلس الشوري, قبل العرض علي مجلس الشعب, وحضر وزير التعليم العالي في ذلك الوقت عمرو سلامة, ولم يلق المشروع في مجلس الشوري أي اعتراض, بل الموافقة الكاملة وأوكل لي الصديق فاروق حسني أن أكون نائبا عنه في مجلس الشعب, وتأجل عرض المشروع أكثر من مرة في جلسة واحدة, إلي أن بدأ عرضه قبيل الساعة الثانية عشرة ليلا, ولم تحدث معارضة كبيرة, فقد كان الدكتور فتحي سرور متعاطفا مع المشروع الذي في مصلحة زملاء وتلامذة له وأذكر عند قراءة الجزء الخاص بجائزة التفوق أن طلب النائب محمد أبو العينين الكلمة فأذن له رئيس المجلس; فذكر أبو العينين أعضاء المجلس بأنه قد مضت دقائق علي انتصاف الليل, وأنه يقترح تسمية الجائزة الجديدة التفوق باسم الرئيس السابق مبارك, فقد دخلنا يوم عيد ميلاده ولم يجرؤ أحد علي الاعتراض, بل لقي الأمر الترحيب, ولكن حنكة الدكتور فتحي سرور دفعته إلي تذكير الجميع بالإرهاق الذي لابد أن يكون نالهم, وأنه من الأفضل تأجيل التصويت علي الموافقة إلي جلسة الغد الصباحية وأعلن انفضاض الجلسة, وتأجيلها إلي صباح الغد وخرجنا من القاعة, ووجدت نفسي محاطا بزكريا عزمي وفتحي سرور وكمال الشاذلي في طريقنا إلي مكتب فتحي سرور وقال كمال الشاذلي, ونحن في الممر, مخاطبا محمد أبو العينين ولكن اسم الرئيس أكبر من قيمة جائزة قدرها خمسة وعشرون ألف جنيه, لابد من وجود جائزة كبيرة وكنا وصلنا مكتب الدكتور فتحي سرور, ونظر لي زكريا عزمي سائلا لماذا لا توجد جائزة كبري في المشروع المقدم؟ قلت لأني لم أكن واثقا من موافقة لجان المجلس علي جوائز أكبر وعلي كل حال, هناك في المجلس مشروع جائزة باسم جائزة النيل قدرها مائة ألف جنيه وتمنح للمصريين والعرب جميعا ويمكن توسيع الصياغة لتتضمن جائزة النيل, فقال كمال الشاذلي وأنا أقترح إطلاق اسم جائزة مبارك بدل جائزة النيل ووافق الجميع علي هذا الاقتراح دون حتي طلب رأيي, فأنا لم أكن وزيرا, وإنما مجرد ممثل لوزارة الثقافة, ولست أملك إزاء رأيهم فيما بدا من سلوكهم وحديثهم إلا الطاعة والموافقة علي ما قرروا وقال لي فتحي سرور إذن نلتقي في مكتبي في الثامنة والنصف من صباح الغد, ومعك التعديل المطلوب للنص وقضيت وقتا طويلا من الليل في إعداد التعديل, بعد أن أخبرت فاروق حسني, وحملت في الصباح التعديل الذي راجعه سامي مهران أمين المجلس, بعد أن استدعوه, ووافق فتحي سرور علي الصياغة بعد شطب اسم جائزة النيل, وجعلها جائزة مبارك وبقيت موافقة الرئيس السابق, فأوكلوا المهمة إلي كمال الشاذلي الذي طلب الرئيس علي الخط المباشر, وعرض عليه الأمر, وحصل علي موافقته. وكنت أشعر برفض داخلي لتسمية جائزة باسم حاكم وأذكر أن أكثر اثنين اعترضا علي تغيير اسم الجائزة كانا المرحومين إسماعيل صبري عبدالله وأحمد خليفة, وأبديا اعتراضهما صراحة في المجلس, مؤكدين أنه لا ينبغي إطلاق أسماء الرؤساء الزائلين- في النهاية- علي أسماء جوائز ومؤسسات ثابتة باقية لكن كلا الاثنين ظلا علي تقدير جهدي, وعلي ارتفاع القيمة المالية لكل الجوائز ومن المؤكد أنهما يشعران بالراحة, في قبريهما, الآن, بعد أن استجاب مناخ الخامس والعشرين من يناير إلي حكمتهما, وعادت الجائزة إلي اسمها الأول, جائزة النيل الخالد الذي هو باق قبل وبعد الحكومات السابقة والحالية واللاحقة... أليست مصر هبة النيل كما وصفها هيرودوت؟! المزيد من مقالات جابر عصفور