من المؤكد أنه في ظل المأساة الإنسانية التي تعايشها ليبيا منذ شهور جراء القصف المتبادل بين قوات الناتو ومحاولات كتائب الجيش الليبي منع تقدم الثوار صوب طرابلس واستمرار تصاعد المواجهات الدامية بين الفريقين يكاد أن يكون من المستحيل أن يتوقف أي منا ليسأل عما قد يتهدد آثار ليبيا من دمار. لكن مع تواتر أخبار عن قصف مدينة غدامس الليبية الأثرية المكناة بزهرة الصحراء أصبح ذلك المستحيل الممكن الوحيد بالنسبة لي, خاصة عندما تداعت لذاكرتي عبارات محمد العزيز ابن عاشور المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم( الأليسكو) عندما عبر خلال حوار خاص لصفحة دنيا الثقافة عن توجس أن تطول الضربات الجوية مدينة الباتيس ماغني المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي والتي تعد من أروع المدن الأثرية في العالم, إضافة لمخاوف أن يطول القذف المدينة العتيقة في مصراتة. أعترف أنني لم أعرف عن مدينة غدامس التي طالها القصف أخيرا إلا أنها واحدة من عدد من المناطق الأثرية الليبية التي لم أرها أبدا رؤية العين إذ لم تسبق لي زيارة ليبيا قط,, و لكن ربما كان تأثير المهنة والتخصص أو لعلها كانت نبرة الاسي التي غلفت عبارات د. بن عاشور وتردد صداها في سمعي, وهو يعلن أنه لا يعرف تحديدا ما تتعرض له مدينة الباتسي ماغني الأثرية وغيرها من المناطق الأثرية جراء الغارات الجوية, أو ربما كانت محاولة للهروب من مشاهد القتلي والجرحي في مدن العالم العربي التي باتت تطاردنا علي مدي ساعات الليل و النهار, أيا ما كان السبب فقد وجدت نفسي اندفع بحثا لمعرفة المزيد عن المدينة ذات الاسم الغريب غدامس. فغدامس واحة نخيل تقع علي المثلث الحدودي لليبيا وتونس والجزائر وتبعد عن العاصمة الليبية طرابلس بمسافة543 كم و يرجع أصل الاسم للغة الرومانية إذ أطلق غليها الرومان اسم قاموس أي بلد الجلود بينما أطلق عليها الطوارق اسم اغداميس أي مناخ الإبل حيث كانت محطة للقوافل في الزمن القديم حيث ربطت بين شمال و جنوب القارة.., وقد تم العثور فيها علي تماثيل ونقوش حجرية تدل علي وجود حياة في الواحة وماوحولها منذ10000 سنة. وقد خضعت المدينة قديما لسيطرة الإغريق ثم الرومان, إلي أن دخلها العرب بقيادة عقبة بن نافع, وبلغت ذروة مجدها في القرن الثامن عشر تحت الحكم العثماني الذي خضعت له ليبيا آنذاك وازدادت أهميتها كمركز للقوافل ونقطة للتجارة بين حواضر القارة الإفريقية, و ظلت علي هذا الحال إلي أن احتلها الإيطاليون عام1924 م. وتنقسم غدامس لثلاثة أقسام هي المدينة العتيقة حيث السور والجامع, وغابة النخيل, والمدينة الحديثة حيث المباني المستحدثة وفي وسط المدينة عين الفرس. وقد أسرف الرحالة العرب في وصف الواحة ونسبوا لها الجلد الغدامسي. وأشاروا لكهوفها وغرائب بناياتها. وذكر ياقوت الحموي في كتابة معجم البلدان أن في وسطها عينا أزلية وعليها أثر بنيان عجيب رومي يفيض الماء فيها. من أهم الشواهد الأثرية في غدامس مجموعة تمسمودين وهي آثار رومانية مبنية بالأحجار الجبس, ويذكر أنها بقايا معابد رومانية قديمة, كما توجد بها بقايا قصور أو شبه قصور أو لعلها حصون مهجورة منها قصر الغول شمالي غدامس وقصر بن عمير وقصر مقدول إضافة إلي القلعة العثمانية التي خصص جزء منها لمتحف غدامس, وتمثل عين الفرس ذات الشهرة التاريخية القديمة وبحيرة مجزم ومنطقة الرملة أهم المعالم السياحية بالمنطقة. صور تلك المناطق العتيقة و البنايات القديمة ذات الطابع المعماري الخاص أعادت لذاكرتي صورا مشابهة لمناطق كانت و لاتزال يهددها الدمار..في القدس.. في غزة.. في لبنان.. في سوريا.. وربما الآن في اليمن.. ففي تاريخ ليس بالبعيد و تحديدا في2004 دمرت الدبابات الإسرائيلية تحفة فنية من الموزاييك البيزنطي في منطقة جباليا شمال غزة, وفي أثناء الحرب اللبنانية تعرضت محميات الأرز للخطر, كما تعرضت العديد من الآثار الرومانية والمسيحية و الإسلامية في غزة لمخاطر حقيقية أثناء قصف القطاع, وبينما لا تزال محاولات استعادة الآثار التي تم نهبها أثناء فترة الانفلات الأمني الأخير في مصر, تطالعنا أخبار مبهمة عن مصير مناطق أثرية في مناطق الصراع, ولا يزال الأقصي حتي اللحظة مهددا.. حلقات متصلة من مخاطر لا تنتهي, بل وتتجدد بصورة أعنف في ظل الأوضاع التي تشهدها المنطقة العربية الآن, الأمر الذي يتطلب تحركا سريعا وأفعالا أكبر من التنديد أو إبداء القلق. وبالتالي أتصور أنه علي الأليسكو التي استحدثت إدارة التراث وكل الهيئات الثقافية العربية واتحاد الأثريين العرب إرسال لجان عاجلة لتقدير حجم الدمار التي قد تكون الممتلكات الثقافية تعرضت له في مناطق الصراع وتكثيف الجهد المشترك لمطالبة اليونسكو بتفعيل إجراءات اتفاقية لاهاي لعام1945 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح و التمسك بتصريح إيرينا بوكوفا مديرة منظمة اليونسكو في مارس الماضي الذي ناشدت فيه قوات التحالف والقوات الليبية عدم قصف المواقع الأثرية في البلاد التي وصفتها بأنها ذات قيمة تاريخية عظيمة وبأنها جزء من التراث الثقافي العالمي وينبغي المحافظة عليه, مع التأكيد علي التزام أطراف النزاع واليونسكو والاليسكو وجامعة الدول العربية بمسئولية إعادة ترميم كل الممتلكات الثقافية العربية التي تعرضت لأضرار ووضع آليات ملزمة تضمن حمايتها مستقبلا.