علي نهج الاحتجاجات العربية تشهد القارة الأوروبية العجوز اليوم تظاهرات حاشدة احتجاجا علي تدني مستوي المعيشة وازدياد قضايا الفساد المالي والإداري اضافة إلي تنامي ظاهرة الانحرافات غير الاخلاقية التي اصابت طبقة السلطة. ولعبت مواقع التواصل الاجتماعي, دور البطولة في هذه الاحتجاجات وليس أحزاب المعارضة أو النقابات العمالية, حيث نظم المحتجون نشاطاتهم عن طريقها. غير أن الشباب الأوروبي لم يعلن غضبه علي سياسة حكوماته في فضاء الانترنت بمنأي عن الأرض, بل تمكن من خلق المعادلة الصعبة التي جعلت العالمين الافتراضي والواقعي عالما واحدا. وقد أثبتت هذه الاحتجاجات فاعلية شديدة ليس فقط في التواصل عبر شبكة الانترنت ولكن أيضا في تنظيم الاحتجاجات في عدد كبير من مدن الدول المحتجة. وتتزامن الاحتجاجات الأوروبية مع عمليات انتخابية أجريت في أسبانيا وفرنسا أو متوقع إجراؤها قريبا في اليونان اضافة إلي اقترانها برياح الأزمة المالية التي مازالت آثارها تعصف بأوروبا وتزيدها انغماسا في الهم الداخلي جنبا إلي جنب مع تباطؤ النشاط الاقتصادي وحالة من الترقب المشوبة بالحذر, خصوصا وأن ثمة تراجعا للثقة في اقتصاد منطقة اليورو بسبب تدهور الثقة في قطاع يعتد به من كبري الشركات الأوروبية. وفي سياق متصل مازالت بعض الدول الأوروبية عاجزة عن إجراء تكييفات هيكلية تقيلها من عثراتها الاقتصادية. والأرجح ان التطورات السلبية علي الساحة الأوروبية, والفشل الحكومي في التعامل مع هذه التطورات وتداعياتها كان سببا مباشرا في اندلاع تظاهرات غاضبة استلهمت روح الربيع الثورات العربية وآلياتها وشعاراتها الاحتجاجية التي رفعت في ساعات التغيير بالعواصم الأوروبية ومدن أخري نددت بغياب العدالة الاجتماعية وانحرافات الرأسمالية وفساد النخبة الحاكمة. وكان للشعارات الافتتاحية للاحتجاجات الأوروبية دور مهم منذ البداية في تجنب الخلافات السياسية والفكرية بين المشاركين في الاحتجاجات والداعين لها, كما عبرت بعض الشعارات عن الاستياء الشعبي ليس علي النخب الحاكمة فحسب, وإنما علي مختلف القوي السياسية التي تحتكر بشكل أو بآخر العملية السياسية, وتغلق الباب أمام المشاركة المجتمعية. المهم أن التطورات السلبية وغيرها من الأخطاء الحكومية خلقت تحركات شعبية قد تكون تداعياتها غير مأمونة العواقب, خصوصا وأن رياح التغيير بدأت تهب من العالم العربي علي أوروبا وشعوبها الذين سئموا أوضاع حكامهم طامحين أن يأتي جيل جديد يحقق ما عجز عن تحقيقه نخب ترهلت أفكارها وشاخ حماسها وفسدت اخلاقها. وعلي الرغم من استمرار مظاهر الحياة اليومية, ومحاولة الحكومات الأوروبية التعاطي مع أزمتها, إلا أن احساسا عاما بعدم التفاؤل في مستقبل آمن ومزدهر يمكن استقراؤه في استمرار الاعتصامات وتواصلها, وهو الأمر الذي قد يهيئ تربة خصبة لاستقبال قطار التغيير القادم من قلب العالم العربي إلي أوروبا.