الإبداع تمرد علي الوضع الراهن, تجاوز لما ران واستكان وسكن وتجمد وتصلب, اجتراح للعجائبي, وتشوف إلي الحلم والمستحيل, تدفق للانفعال, وتألق للخيال,قلب الإبداع ثورة علي الركود والركون إلي كل ما هو ثابت وساكن وآسن ومتكرر, والإبداع إنتاج جديد مفيد, فردي أو جماعي, يجمع المختلف في المؤتلف, والكل في واحد.وقد كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير ثورة للإبداع, ثورة للمبدعين, ثورة لشعب مبدع علي نظام حاول أن يقتل الإبداع, حاول أن يقتله بالركود والثبات والتكرار. فما لم يكن التكرار آلية فنية وأداة من أجل الانطلاق إلي الحركة التالية بقوة وحيوية, كما هي الحال في الموسيقي, ما لم يكن دالة للتراكم الكمي الذي يتحول إلي انفجار كيفي, كما في الثورات والعلم, أو إلي لحظة إشراق وتنوير كما في الأدب والفن التشكيلي; فإنه يكون ضد الإبداع. وقد كان العهد الماضي عهد تكرار, تكرار في السياسات, والوجوه, والنهب, والتزوير, والفساد, تكرار بلغ حد الموت, الموت الذي هو ضد الإبداع. لدي فرويد, التكرار هو السبب الرئيسي في حدوث الشعور بالغربة والغرابة والاغتراب, في شعورنا بأننا لسنا في بيتنا, أننا أصبحنا غرباء عن أنفسنا, وعن واقعنا, وعن حياتنا, أننا أصبحنا خارج الزمان والمكان, نهيم في الطرقات والحياة بلا جدوي, ولا أمل.التكرار ضد الإبداع, وبالإبداع تتقدم الأمم والشعوب والجماعات. في كتاب دراسة التاريخ, الذي يقع في اثني عشر مجلدا,للمؤرخ البريطاني المعاصر أرنولد توينبي(1889-1975), أرجع هذا المؤرخ في المجلد الأول من دراسته انهيار الحضارات إلي عاملين, هما: هيمنة العقلية الآلية النمطية التي تقوم علي أساس التكرار والمحاكاة, ثم جمود المؤسسات وتصلبها. ثم إنه يقول إن الإبداع هو أساس نهوض الحضارات وازدهارها, وغيابه علة انهيارها. كان كاتبنا الكبير الراحل يوسف إدريس يصرح دائما: أهمية أن نتثقف يا ناس, وأنا أقول معه الآن- قبل أن يحين وقت رحيلي- أهمية أن نبدع يا ناس!!. وقد كانت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير إبداعا, إبداعا شبابيا ومجتمعيا وإنسانيا. كان جيشنا الباسل ومجلسنا العسكري الموقر الحاضن الأمين لقوي الثورة وشبابها, لأطفالها ورجالها وشيوخها, لمسلميها ومسيحييها, لسكان المدن والريف والسواحل وسيناء والصحراء, لكل من كان يحب مصر في داخلها أو خارجها. كانت الثورة إبداعا, قام بها شعب مبدع عظيم, مهد لها مبدعون, وقام بها مبدعون, وحماها مبدعون, وستستمر بالمبدعين من أبناء مصر, وينبغي أن نستمر هكذا في طريقها الإبداعي العظيم. الإبداع في أبسط تعريفاته هو: إنتاج جديد مفيد, وقد كانت الثورة إنتاجا مجتمعيا جديدا ومفيدا, وينبغي أن تظل كذلك, ينبغي أن تتجاور تلك العوائق والعقبات والأشباح المهيمنة هنا وهناك, تلك التي تحاول باستماتة أن تعيدها إلي الوراء, وإلي ما وراء الوراء أيضا. الإبداع خلق علي غير مثال, هذا هو المعني اللغوي والتراثي له, لكنه أيضا إنتاج جديد ومفيد, كما في تعريفنا الخاص له, وفي الحالتين الإبداع حركة- كما قلنا- ضد التكرار, والتكرار حركة موجهة نحو الثبات; ومن ثم نحو الموت, وضد الحياة والإبداع. قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير كان هناك تكرار كامل- كما قلنا- في كل شيء, تكرار كان يعني أن طائر الموت قد أصبح يضرب بجناحيه الأسودين القاتمين فوق مصر كلها, ولكن مع ذلك التكرار الذي فرضه النظام السابق كانت هناك إزاحات صغيرة متتالية في اتجاه الإبداع, إزاحات قام بها كتاب شرفاء, وإعلاميون ونواب وصحافيون وطنيون, وقوي وطنية قاومت وقدمت إبداعها الخاص في وجه التكرار والركود, حتي جاء انفجار الخامس والعشرين من يناير العظيم. يقف دافع الموت وراء التكرار, ويقف دافع الحياة وراء الإبداع. والتكرار الكامل كما ذكر فرويد يعني الموت, يعني شيئا وراء الحياة, وراء السرد, وراء الإبداع. في التكرار تمحي المسافة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون, بين الوجود الغفل من المعني والحلم, بين الوجود الضيق المحدود, والوعد والأمل والرغبة في التجاوز والتحقق والإنجاز. في التكرار إزالة للمسافة بين الأب والابن, النموذج الأصلي والصورة, الحاضر والمستقبل, الراكد الحالي والمتجدد الممكن; ومن ثم يكون التكرار- وبإلغائه لهذه المسافة- وسيلة لانهيار هذه الثنائيات كلها معا, إلي ضياع هوية الأب والابن, والحاضر والمستقبل, والحالي والممكن, ومع ضياع الهوية ينمحي التفرد, ومع انمحاء التفرد يضيع الإبداع, ومع ضياع الإبداع يحل الموت, ومع حلول الموت, لابد من حضور جارف كثيف للإبداع, وإلا تبددت الأمم, وضاعت الشعوب, ونحن لسنا أمة تتبدد,أو شعبا يضيع; نحن مهد الحضارة, وأملها المنشود, نحن أمة مبدعة.. جاء شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير العظيم.إنهم أبناء الغضب, أبناء آباء وأمهات صبروا علي تكرار الفساد, والحرمان, والدروس الخصوصية, ومسلسلات رمضان التافهة, والشوارع المزدحمة, والمشكلات التي تنوء بأحمالها الجبال. لكننا- لأننا شعب مبدع- شعب مستمر, شعب يتجاوز العقبات, شعب يتسم بالمرونة التي هي جوهر الإبداع. فالمبدع عندما تواجهه العقبات ولا يصر علي الارتطام بها, بل يتجاوزها, ويبحث عن مسالك جديدة لحلها, يصبح متسما بالمرونة,وسعة الأفق, حتي يصل إلي حل إبداعي جديد ومفيد. هكذا كان شعبنا وهكذا ينبغي أن يكون, هذا ما لم ننتبه له نحن الدارسين لموضوع الإبداع. لا بد أن يكون المشروع القومي المقبل هو: مصر علي طريق الإبداع, مصر المبدعة العظيمة التي تجمع الكل في واحد, كما كانت دائما, مصر غير المتعصبة, مصر التي تقبل الآخر وتتسامح معه, علي ألا يكون ذلك علي حساب مجدها وكرامتها, وإنسانية أبنائها. لنتذكر مرة أخري, ما قلناه من قبل من أن التكرار هو العدو القاتل للإبداع, وإنه أي التكرار- عندما يستمر فإنه يعني الموت, وإنه لا هروب من موت التكرار وتكرار الموت إلا بالإبداع, وإنه مثلما قد يكون الموت مخيفا, فكذلك يكون التكرار مخيفا وغريبا, وجالبا معه الغربة والغرابة; لأنه يعني دائما أن الماضي يحل محل الحاضر, ويحتل موقع المستقبل أيضا, هذه دعوة لأن تتحول قوي الثورة وطاقاتها المتلاطمة المتصارعة المتجددة إلي حالة عامة من الإبداع العلمي والثقافي والفني والرياضي, في المجالات كافة, دعونا نجدد الخيال السياسي والثقافي لمجتمعنا, وبدلا من غزوة الصناديق دعونا نغز الفقر والجهل والمرض والصحراء والفضاء, وبدلا من أن تحل ديكتاتورية الحشد محل ديكتاتورية الفرد, دعونا نجعل الإبداع هو المشروع القومي لمصر في السنوات المشرقة المقبلة.