الثورة هي إبداع جماعي هي نقلة تطورية نوعية للوعي الكلي لشعب ما في مرحلة ما من مراحل تطوره، وهي مثل كل إبداع، تتحرك في أطوار ومراحل متتالية لها معالمها ومخاطرها ومضاعفاتها، وهي - في الأحوال الطبيعية الصحيحة - ليست حدثا منفردا، ولا هي مصادفة عابرة، وإنما هي طور ايجابي علي مسار قانون الحياة النابض. لا يسمي الابداع إبداعا عند أية مرحلة من مراحله الاولي إلا ان يتم إعادة التشكيل والاستقرار علي الشكل الأصيل الجيد المكتمل المحقق لغايته. كذلك لا ينبغي أن تسمي الثورة ثورة بمجرد قيام جماعة من الشعب، أو حتي جموع الشعب بتفكيك القديم وإعادة تفكيه، ثم إعادة تفكيكه ثم تتوقف زائطة عند ذلك. الابداع الذي لا يكتمل - وأسميه الابداع المجهض - هو نوع من الجنون المتفسخ، ويا ليته ما بدأ أصلا الا أن يتحول مساره بتخليق صعب مع خبير قادر (معالج) علي احتوائه الي مسار ايجابي، وما لم يتم ذلك فهو الجنون التفسخ، وليس الابداع مهما بلغت روعة بدايته وقوتها. كذلك الثورة التي تتوقف عند مراحلها الاولي وهي بعد غضة لم يشتد عودها، هي عرضة للإجهاض أيضا، أو علي الاقل للتشويه والخطف بواسطة المتربصين بها من غير أهلها، العلاقة بين الابداع والجنون علاقة وثيقة تماما ومهمة فبقدر ما يتشابهان في المراحل الأولي لعملية كل منهما، فإنهما يختلفان الي العكس تماما في مآل كل منهما، وفي حين لا يكون الابداع إبداعا الا اذا مر بكل مراحل الابداع ودفع ثمنها كاملا، وخرج منها سالما بتشكيل جديد أصيل، يكون الجنون تفسخا وتدهورا برغم انه بدأ بنفس آليات الابداع البادئة أيضا بالاقتحام والرفض والتفكيك. المبدع الفرد يعرف ذلك، وهو يخاطر بخطاه وهو يعرف انه يخطو في حقول الموت والبعث في آن، ثم هو يواصل ويتحمل كل أهوال المغامرة لأنه يعلم انه ليس أمامه سبيل آخر، فهو الإبداع وبرغم ذلك لا يوجد مبدع أصيل يستطيع ان يضمن مآل خطوات إبداعه بيقين مسبق، وإلا فإن إبداعه سيخرج ماسخا بلا طعم. الثورة، الابداع الجماعي تغامر بنفس المخاطر، مع احتمال نفس المضاعفات وتتعرض لنفس احتمالات الاجهاض والتشويه والتفسخ (الفوضي) ومن ثم النكسة الي مستوي أدني يسمي المآل السلبي أو الاندمال. علي هذا القياس يمكن ان نستنتج ان الوعي الجمعي للشعب الذي كتبت عليه الثورات كما كتبت علي الذين من قبله (لأنها قانون الحياة) هو يمر بنفس المراحل، وهو يخترق نفس المخاطر، ويحتاج الي نفس الحرص للحفاظ علي التوجه والقيام بالتصحيح باستمرار، وما لم يتعهد الوعي الجمعي هذه الخطوات الواحدة تلو الأخري بكل المسئولية التي تتجاوز الفرحة، وتحذر من مجرد تكرار نص الخطوات الأولي، فإن المآل السلبي ينتظره مثل كل إبداع مجهض. يا تري: هل نحن منتبهون بدرجة كافية الي احتمال تمادي التفكيك إلي التفسخ، ومن ثم الاجهاض؟ فهي الفوضي العشوائية التدهورية البشعة، وهي ما يكافئ المراحل المتأخرة السلبية من الجنون بعد ان ينقلب التفكيك الي التفسخ. والآن: ما الذي يضمن لنا - فرادي وجماعات، مبدعين وثواراً - ان ننتقل من التفكيك الي إعادة التشكيل، وليس الي التفسخ فالفوضي العشوائية المدمرة؟ خاصة أن الوعي التطوري المسئول يعرف أنه ما انتهت ثورة إلا إلي ثورة؟ الجواب انه الإعداد الجيد، والرعاية اللاحقة، والمسئولية المثابرة أما عن مرحلة الإعداد لمشروع ثورتنا الحالية، فيبدو انه تم بكفاءة مناسبة، كنا نشك فيها طول الوقت، إذ لابد ان هؤلاء الشباب وهم يمارسون حياتهم العادية بإيجابية - روتينية - نسبيا، وبرغم انهم بدوا وكأنهم قد استسلموا للقهر والاحتقار والتهميش، يبدو انهم كانوا يتلقون في نفس الوقت من الاعلام الايجابي الانتقائي (اللامركزي) عبر العالم، ومن الابداع والنقد المحليين بشكل مباشر وغير مباشر، ما كان قادرا علي المستوي الشخصي ان يجمع رسائل مشحونة وقادرة هي التي أدت الي كفاءة الاستعداد للخطوة التالية، هؤلاء الشباب لم تمنعهم مرارة الذي يعيشونه هم وناسهم، من تخزين طاقتهم وتنظيمها - بدون وعي مباشر - استعدادا للانطلاق بمشروع الإبداع المحتمل، ثم حين وصلت الطاقة الي عتبة الانطلاق تجاوزت الظاهر بشجاعة وتضحية قادرة، وإذا بنا نفاجأ حيث لا مجال للمفاجأة إلا بالتوقيت، ومهما كان هناك شك فيمن الذي آثار إنطلاق هذه الطاقة، ولا من الذي حدد التوقيت، فإنه بمجرد ان ظهرت آثاره علي السطح تبينا كم كان ثريا وكافيا لبداية عملية الإبداع الجمعي الواعد بثورة حتمية. الإعداد للثورة باعتبارها إبداعا جماعيا، مثل الإعداد الفردي للإبداع فعندي أن الإبداع ليس مسألة تنمية مواهب أو شحذ قدرات، وإنما هو استيعاب طبيعي للإيقاع الحيوي النابض عل مسار النمو، وهذا هو منطلق ما جعلني أعتبر أن الأحلام - دون ضرورة حكيها - هي إبداع الشخص العادي. بمجرد أن يتحرك مشروع الثورة، البسط للتفكيك، ونطمئن الي كفاءة الإعداد من واقع سلامة البدايات، تنتقل عملية الإبداع الي مرحلة الرعاية فالتنظيم للمفردات المتناثرة، تماما مثلما يحدث في عملية الإبداع الفردي الناجح السؤال الذي كان يطرح علي وعلي غيري، وكنت أنزعج منه ابتداءً ثم أرفض الاجابة عليه عادة هو عن عنصر المفاجأة فيما حدث، مع ان إيجابيات ما حدث تطرح الإجابة بالنفي بشكل حاسم، فلا شئ مثل ما حدث يمكن ان يخرج من فراغ السؤال الثاني الذي كان موقفي منه بنفس الدهشة حتي الرفض، هو تحديد تاريخ »52 يناير« كأنه علامة فارقة لما قبله وما بعده، وكأن الزمن يمكن ان يقسم تعسفا الي خطوات منفصلة عن بعضها البعض بما يفسد سيولة مساره، وكأننا في قطار للمفاجآت في مدينة ملاه، وليس في مجال اكتشاف وعود وإيجابيات حاضرة في الوعي الجمعي وقد أفرج عنها لتعلن البداية الجديدة؟ بمجرد ان نطمئن الي أننا قادرون علي تجاوز احتمال مسار الفوضي يبدأ الاعداد - بوعي أو بتلقائية متنامية - للثورة القادمة، هذه هي طبيعة الإيقاع الحيوي عامة وهي هي، علي ما يبدو، طبيعة حركة نمو الشعوب (بل والأحياء عبر تاريخ الحياة) وهل هذا يعني أن ثمة ثورة قادمة فعلا؟ وهل هذا حتم لا مفر منه؟ ولماذا؟ الإجابة عندي أن: »نعم« علينا أن نستعد لثورة إيجابية قادمة، بإعداد أكثر وعيا، حتي لا تكون ثورة علي الثورة، وهذا ما يمكن ان يقلبها إلا ما يسمي الثورة المضادة، الإعداد للثورة القادمة يبدأ من الآن بإنجاح هذه البداية الحالية حتي تكتمل ثورة قادرة، تأخذ فرصتها بكل ما لها وما عليها، ونتعلم منها ما هو أبقي وأرقي، فنعود نشارك في صناعة حياتنا، وتكريم أنفسنا وناسنا - والناس - كما خلقنا ربنا.