هل كان من قبيل المصادفة ان يأتي في نفس التوقيت, استعراض حالة الأمن القومي المتغير, من جانب المؤسستين العسكريتين في كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا. ففي الولاياتالمتحدة اعلنت وزارة الدفاع الاستعراض الدفاعي, بينما صدر عن وزارة الدفاع البريطانية في3 فبراير2010, أول تقييم عسكري استراتيجي منذ اكثر من عشر سنوات, وكان محور كل منها النظر في الشكل الذي ستكون عليه حروب المستقبل. وبدا وكأن هناك مايشبه جرس الإنذار للتنبيه الي ان الأمن القومي أصبح في حاجة الي ثورة في التفكير والتخطيط, استعدادا لحروب المستقبل. والقول بأننا يجب ان نكون مستعدين لمفاجآت الصدمات الاستراتيجية, وهو التعبير الذي استخدمه سير مارك ستانهوب قائد القوات البحرية البريطانية. كان الاهتمام واضحا في الولاياتالمتحدة بمناقشة هذا الاستعراض من البنتاجون, كما شغلت مراكز البحوث والبرلمان في بريطانيا بمناقشة الاستعراض الدفاعي الذي حمل اسم الورقة الخضراء. وجدير بالذكر ان بادي أشدون الزعيم السابق لحزب الأحرار البريطاني, ورئيس لجنة بحث التغيير في استراتيجيات الأمن القومي, كان قد اعلن في يوليو2009 التقرير النهائي لهذه اللجنة, الذي دعا لأن تتوافق استراتيجية الأمن القومي مع مصادر التهديد الجديدة والمتغيرة, ثم دعا أخيرا بعد صدور الورقة الخضراء الي مناقشتها وقال: اننا ننتقل بأمننا القومي من الدفاع وراء حدودنا, الي دائرة أوسع تشمل حماية الشعب في الداخل فأمننا القومي يمكن ان يكون مهددا أخيرا من أي شيء! ابتداء من فيروس في الكمبيوتر, الي انفلوانزا الطيور وهو مايدعو الي اجراء تقييم شامل للأمن القومي, فالتهديدات معقدة, وهناك اجماع سياسي حول ضرورة التصرف بسرعة. وعبر ماجري من مناقشات علي الناحيتين الأمريكية والبريطانية, والذي شارك فيه سياسيون وقيادات عسكرية, يمكن رصد النقاط التالية: (1) ان الحروب بشكلها التقليدي الذي تتقاتل فيها الجيوش, في مواجة مع بعضها البعض, في ساحات المعارك المفتوحة, قد بدأ يحل محلها بالفعل حروب داخل حدود الدولة مثلما هو الحال في أفغانستان والصومال. وحيث نري ان كثيرا من المقاتلين إما انهم رجال حرب عصابات, أو إرهابيون. ومن الصعب مواجهة تكتيكاتهم بالدبابات والطائرات النفاثة المقاتلة. (2) لايعني هذا ان نستبعد احتمال نشوب حرب تقليدية بين دولتين, وإن كان الأرجح ان تلجأ دول الي الحرب بالوكالة. وذلك بالاعتماد علي من يقاتلون نيابة عنها ولحسابها كوكلاء, وتتنوع أشكال الوكلاء من المرتزقة, أو المتحالفين من أجل هدف مشترك, الي الذين يجمعهم ببعضهم ايدلوجية واحدة. (3) من المهم مناقشة هذا التغيير في مفهوم الأمن القومي, بدءا من تعريف كيفية المزج بين مختلف المكونات المتغيرة لمعني قوة الدولة, مثل القوة العسكرية, والمخابرات, والدبلوماسية, والقدرة الاقتصادية, والأمن الداخلي, حتي يمكن التعامل مع ماتحمله مصادر التهديد في هذه الأوقات المتقلبة, بالنسبة للمناخ الأمني العالمي. وأن يكون هناك تركيز خاص علي تحصين خط المواجهة في الداخل, من خلال الارتقاء بالقدرات البشرية, والاستفادة من أهل العلم والخبرة, ودور التعاون المتبادل بين الأبحاث العسكرية, وبين التنمية الاقتصادية والبشرية. وهذا جانب اكد عليه الجنرال سير ديفيد ريتشاردر رئيس هيئة الأركان البريطانية. (4) من ناحية الاستعراض الدفاعي للبنتاجون, فهو اعترف بأن الولاياتالمتحدة تواجه مجموعة متنوعة من المنافسين الذين يقعون في مواجهتها, علي جبهات معارك مختلفة. وإن الولاياتالمتحدة لاتزال أكبر قوة عسكرية في العالم, الا أنها في ظروف الأوضاع الدولية الحالية صارت أكثر احتياجا لحلفاء وشركاء, لمساعدتها في الحفاظ علي الاستقرار الدولي. (5) اتفق الاستعراض الدفاعي لكل من البنتاجون ووزارة الدفاع البريطانية, علي أن الأسلحة التي كانت تنتج من أجل صراعات عصر الحرب الباردة, أصبحت قاصرة عن أداء مهام حروب اليوم, والتي تحتاج إلي نوعيات متطورة من الأسلحة. وأن حروب اليوم فيها من الفوضي أكثر مما فيها من نظام, وليست لها خطوط مواجهة أمامية. ولعل مايجري في أفغانستان الآن هو نموذج لهذا. (6) بصفة عامة يستحق ماجاء في الاستعراض الدفاعي البريطاني والأمريكي, نظرة أكثر عمقا, وإلماما بما طرحه من أفكار وتوجهات. فكلاهما يعكس تصورا لحروب ونزاعات المستقبل, وكيفية مواجهتها, ولايستقيم أن تظل دول ما, تتصرف بناء علي مفاهيمها التقليدية للأمن القومي, بينما هي جزء من عالم يغير فيه الآخرون مفاهيمهم للأمن القومي, ويتأهبون لاتخاذ قرارات ورسم إستراتيجيات تجسد ما استقر عليه تفكيرهم. (7) ان العالم في عصر ثورة المعلومات, وتعدد مصادر تهديد الأمن القومي, وتنوعها, وحركتها المنسابة بين ماهو خارج الحدود, وماهو داخل الدولة, يحتاج صياغة جديدة لمعني الأمن القومي, يشارك فيها أهل العلم والخبرة من ذوي الفكر السياسي المتعدد, حتي تلتقي الآراء, مهما اختلفت في بوتقة, يخرج منها التصور الأنفع لما يحمي ويصون الأمن القومي للدولة, ويحفظ لها مكانتها ودورها وهيبتها. 1