إن خطر الجرائم الطائفية لا يقارن قط بما يواجهه الوطن من أزمات اقتصادية وانفلات أمني ومظاهرات احتجاجية فئوية باعتبار أن الجرائم الطائفية تهدد وجود الوطن ذاته, خاصة إذا ما وضعنا في الحسبان أن مرتكبي تلك الجريمة التي يتفق الجميع علي إدانتها يعدون أكثر المجرمين إحساسا بالأمان. حيث أنهم يرتكبون جرمهم معلنين عن هويتهم بالصوت والصورة وهم واثقون أنه مهما بلغت بشاعة جريمتهم فسوف يفلتون من العقاب وينتهي الأمر بالصلح أو بالصمت بعيدا عن أعمال القانون. هكذا كان دأبنا منذ أحداث الخانكة1972 أي منذ مايقرب من أربعين عاما, عبورا بالاتهامات الموجهة للكنيسة باحتجاز مواطنين أو مواطنات, وكان منطقيا والأمر كذلك أن يصل الأمر إلي ما وصل إليه. ولعلي لا أبالغ اذا ما قلت أنني حين رأيت مشهد احتراق كنيسة إمبابة وما سبقه وصاحبه من تبادل إطلاق الرصاص وإلقاء الزجاجات الحارقة وسقوط ضحايا من الجانبين, وحين شاهدت بعض من يعلنون انتسابهم للتيار السلفي يزمجرون مهددين باقتحام الأديرة وإحراق الكنائس, ويعلنون حرمة رفع صورة الهلال مع الصليب مؤكدين أن الاسلام الصحيح يدعونا للتمايز عن النصاري والتعالي عليهم إلي حد التضييق عليهم في الطريق بل والتحذير من مجرد تحيتهم أو تهنئتهم بأعيادهم, وشاهدت كذلك بعض الأصوات المسيحية تستنجد بالخارج, أحسست أنذاك أنني مسئول شخصيا بدرجة أو بأخري فيما حدث. صحيح أن المقدمات توحي بأن التحقيق الجنائي هذه المرة يمضي في طريقه دون أن تعرقله جلسات الصلح التي عرفناها, وصحيح كذلك أنني لم أشارك في ارتكاب تلك الجرائم, فضلا عن أن كتاباتي منذ سنوات طوال تنذر وتحذر وتنصح وتدين التعصب الديني بكافة أشكاله. تري لماذا إذن أجد قلبي مثقلا بذلك الاحساس المقيت؟ تري كيف يمكن للمرء أن يتملكه إحساس طاغ بأنه مشارك في جريمة لم يرتكبها بل كان ممن يحذرون من وقوعها ويدينون من يقدم علي ارتكابها؟ إن المسئولية القانونية تختلف بل قد تتناقض مع ما يمكن أن نطلق عليه المسئولية السياسية الاجتماعية, ففي حين تقوم الأولي علي مبدأ أن الجريمة شخصية ومن ثم لا يطال العقاب سوي من حرض عليها أو ارتكبها بالفعل, فإن المسئولية السياسية الاجتماعية لا تقف أمام أشخاص المجرمين, بل تطال جماعات الانتماء التي ينتسبون إليها, حتي لو لم يشاركوا في الجريمة بل وحتي لو كانوا ممن يرفضونها. ولعل توضيح الأمر يحتاج نظرة في تراث علم النفس السياسي فيما يتعلق بالانتماء للجماعات علي أنواعها. الانتماء لجماعة دينية أو قومية أو سياسية يقتضي أن يحس المرء بمسئوليته عن تشكيل صورة الجماعة التي ينتمي إليها في عيون الآخرين, وغالبا ما تتصف تلك الصورة بعمومية تعلو علي تفاصيل الاختلافات بين الجماعات الفرعية داخل تلك الجماعة الكبيرة, فتتسع صورة الجماعة المصرية المسيحية مثلا لتشمل المصريين المسيحيين جميعا بجميع طوائفهم وتوجهاتهم علي تباينها, وكذلك يتم إدراك الجماعة المصرية المسلمة دون التوقف طويلا أمام تعدد انتماءات وتوجهات الأفراد والجماعات الفرعية المكونة لها, وينطبق ذلك أيضا علي كل جماعة فرعية مسلمة أو مسيحية حيث يتم إدراكها ككتلة واحدة رغم انقسامها واقعيا إلي جماعات فرعية أصغر بل وإلي أفراد تتعدد مشاربهم واتجاهاتهم. من هنا استطعت أن أفسر ما أثقل ضميري كمصري مسلم من إحساس بالمسئولية عما حدث, فليس من شك أن الاحساس باهتزاز صورة النسيج المصري تترك أثرا مؤلما لدي المنتمين لمصر عامة, كما أن إقدام فريق من المسلمين علي المشاركة في ارتكاب مثل تلك الجريمة أمر يسبب فزعا لدي عامة المصريين المسلمين ممن يحرصون علي وحدة الوطن. ولعله يسبب نفس الفزع لدي المصريين المسيحيين حيال تجاوزات تصدر عن بعض من يشاركونهم الانتماء الديني. لقد شاهدنا من حرضوا علنا بالصوت والصورة علي ارتكاب تلك الجرائم, يحرصون علي إعلان انتساابهم لما يعرف بالتيار السلفي, وهو التيار الذي اختار عدد من أبرز دعاته لباسا مميزا لهم حرصوا أن يكون شبيها بلباس أقرانهم من دعاة الوهابية. ورغم أن ذلك التحريض لم يصدر عن جميع دعاة السلفية, بل لقد شاهدنا بعضا منهم يشاركون في ثورة يناير دون أن يجدوا حرجا في رفع شعار عاش الهلال مع الصليب, ولكنه مرة أخري ذلك الفارق بين المسئولية الجنائية والمسئولية السياسية. خلاصة القول: إن المسئولية السياسية تتخطي مسئولية الأفراد لتصبح مسئولية جماعات الانتماء, ومادام المرء متمسكا بانتمائه, فسوف يصيبه رذاذ من أفعال يرتكبها بعض ممن ينتسبون لجماعته, ولا يعد أمامه سوي أن يعلن بأعلي صوته إدانته وتبرؤه مما يصدر ممن ينتسبون لتلك الجماعة, وألا يمل من التحذير من مؤامرة تقسيم الوطن وأن يدعو إلي أعمال القانون علي الجميع دون استثناء. المزيد من مقالات د. قدري حفني