حتي لا يتحجج أحد ممن سيتولون أمر إعداد الدستور الجديد بأن قضية الحقوق الرقمية للإنسان المصري غائمة أو غير واضحة أو لم يتصد لها أو يوضحها أحد.. سأعرض الآن وفي هذا الوقت المبكر جدا- الذي لا تزال اجتماعات لجنة الوفاق الوطني المسئولة عن وضع تصور للدستور الجديد. في بدايات عملها واللجنة التأسيسية لا تزال في علم الغيب- قائمة بحقوق الإنسان الرقمية المتداولة في المحافل والمنتديات والمنظمات العالمية والإقليمية المعنية بهذه القضية; ليتولي الخبراء الدستوريون إعادة تركيزها والتعبير عنها في نصوص عليا داخل الدستور الجديد, بما يفتح الطريق نحو حتمية تجسيدها علي نحو أكثر تفصيلا في القوانين الأخري التي يعتبر الدستور أبا لها جميعا. تشير الوثائق العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان الرقمية إلي أن هذه الحقوق تمضي في مسارين الأول يركز علي القضايا والموضوعات ذات العلاقة بالإنترنت وتداول المعلومات والوصول إليها وحرية التعبير داخل الشبكة وخارجها, والثاني يركز علي القضايا والموضوعات ذات العلاقة بقدرة الإنسان علي الاتصال والتواصل مع البيئة المحيطة به من خلال خطوط وشبكات الاتصالات والمعلومات, وهنا سنذكر الحقوق الواردة في اثنتين فقط من هذه الوثائق علي سبيل التوضيح, الأولي وثيقة تحمل اسم إعلان الديمقراطية الرقمية, وتنتمي للمسار الأول, وهي منشورة علي موقع مركز الديمقراطية الرقمية علي الإنترنت وبها عشرة حقوق هي: 1- حق الاتصال المفتوح بالإنترنت: الذي يفرض أن تكون شبكات الاتصالات مفتوحة ومتنافسة بما يتيح الوصول الدائم للإنترنت, ويتضمن أن يمتلك المواطنون القدرة علي اختيار موفر الخدمة الذين يفضلونه, وأن تتمكن الشركة الموفرة للخدمة من العمل والتشغيل بدون أي قيود مصطنعة, يفرضها مالكو الشبكة أو الحكومات. 2- الحق في اتصالات غير مقيدة: ويتيح هذا الحق لكل إنسان نقل أي رسالة إلي أي إنسان آخر دون تدخل من أحد, سواء الحكومات أو مشغلي الشبكات. 3- الحق في شبكات مجتمعية قوية: أي أن توفر له الدولة شبكات معلومات واتصالات مجتمعية مؤسسية عالية السرعة تربط الهيئات المحلية والمؤسسات الاجتماعية وخادمات بث الوسائط التي توفر برامج غير تجارية وقنوات متطورة للوصول إلي الحكومة والتعليم والخدمات العامة بحيث توفر اتصالات مزدوجة لكل قطاعات المجتمع. 4- الحق في حصة بالتليفزيون الرقمي: أي أن يستخدم جزءا من إمكانيات التليفزيون الرقمي في تقديم عروض عامة مثل برامج الأطفال والبرامج التعليمية والثقافية والشئون العامة, وينبغي أن تستخدم إيرادات بيع الترددات التي تتنازل عنها المحطات في المزاد بعد اكتمال الانتقال إلي البث الرقمي في دعم برامج الخدمة العامة للمواطن. 5- الحق في الخصوصية عبر الإنترنت: أي أن يتمتع الإنسان بأنظمة اتصالات آمنة من المراقبة والاستغلال بكل أنواعه, ومحمية من سياسات الحكومات والشركات بشأن الخصوصية, بما يوفر له درعا واقيا ضد المراقبة والرصد. 6- الحق في الترددات اللاسلكية الشائعة: ويقصد به أن تكون الترددات اللاسلكية التي لا يحتاج استخدامها إلي ترخيص متاحة لكل المواطنين بشكل متكافئ, وتخصيص جزء منها للخدمات العامة وغير التجارية. 7- الحق في أجهزة ومعدات خالية من القيود: أي أن تمتنع الشركات المنتجة للأجهزة والمعدات الحكومات والشركات المشغلة لشبكات الاتصالات وتوفير خدمات المعلومات عن وضع أي عوائق أو قيود تحرم الإنسان من تشغيل وضبط وإدارة الأجهزة في منزله بطريقة مفتوحة تماما تناسب رغباته واحتياجاته. 8- الحق في برمجيات متحررة من القيود: ويقصد به ألا تؤثر أنظمة وتقنيات حماية الاستخدام وحقوق الملكية الفكرية وإدارة الحقوق الرقمية المصاحبة سلبيا علي حقوق المواطن والمستهلك المحمية بالقانون أو توسيع نطاق أو مجال سيطرة مقدم الخدمة أو السلطة أو حامل أو صاحب حقوق النسخ والنشر. 9- الحق في مواقع عامة علي الويب: كما أن هناك مساحات عامة مثل الحدائق والمتنزهات والشواطئ والميادين في مشهد العالم الحقيقي, من حق الإنسان تخصيص جزء من فضاء شبكة الويب لتطبيقات الاهتمامات العامة والخطاب غير التجاري, كمعلومات الجماعات والمشروعات التعليمية والخدمات الاجتماعية والتعبير الثقافي وغيرها, مما يمثل أحجار بناء الديمقراطية التي لا تخدمها عادة مواقع الويب التجارية. 10- الحق في خدمة رقمية عامة: أن أن يتساوي كل المواطنين في الوصول لخدمة الهاتف العامة ليشمل خدمات الاتصالات المتطورة كذلك, وتوفير هذه الخدمات للمناطق متدنية الدخل في الأحياء الفقيرة والقري والمناطق المعزولة والوعرة. وهناك وثائق أخري تؤكد علي الحقوق نفسها لكنها تضيف: - الحق في حرية التنقل والحق في حرية التجمع عبر الفضاء الافتراضي. - الحق في حرية التعبير والوصول للمعلومات - حق الملكية الفكرية. - الحق في التعليم والوصول لتكنولوجيا المعلومات التي يتعين أن تستخدم بلا تمييز. وفي المسار الثاني الذي يركز علي حقوق الإنسان الرقمية ذات العلاقة بقدرة الإنسان علي الاتصال والتواصل مع البيئة المحيطة به, نذكر هنا الوثيقة التي كتبها هيربرت بيركيرت أستاذ قانون الاتصالات بجامعة سانت جالن بسويسرا, والتي تنقسم إلي نوعين من الحقوق, الأول هو الحقوق غير القابلة للمصادرة وليست محلا للاختيار والمفاضلة حتي من قبل الفرد نفسه, وتتضمن: - الحق في الدخول إلي وسائل الاتصالات: ومن مظاهره القدرة علي المشاركة في الأنشطة المتعددة للإنترنت من ترفيهية واجتماعية وثقافية, والدخول إلي وسائل الاتصالات بشكل عام. - الحق في الاتصال الشخصي الذاتي: أي حق الإنسان في أن يجري أي نوع من الاتصالات مع آخرين, وأن تكون هذه الاتصالات له هو فقط. - الحق في الوصول إلي المعلومات والدخول عليها: ويبني هذا الحق علي أن البيئة الاتصالية الشاملة ليست غاية في ذاتها, وإنما هي وسيلة تتيح الوصول إلي المعلومات المبتغاة, وهذا الحق من طبيعة شاملة يتوافق مع فكرة حرية التجول المعلوماتي. الحق في المشاركة الاتصالية: بمعني إن حقوق الإنسان في البيئة الاتصالية الشاملة يجب أن تقود إلي حقوق المشاركة فيها, ثم إن هذه الحقوق بما تتضمنه من معلومات واتصالات ومشاركة ينبغي أن تندمج في مفهوم حقوق المواطنة. أما الحقوق الاتصالية الاستثنائية التي أوردها الدكتور بيركيرت في تصنيفه, وقال إنها نابعة من طبيعة اختيارية وليست طبيعة أساسية شاملة ملزمة فتتضمن ما يلي: - الحق في الخصوصية: أي إمكانية البقاء في عزلة بعيدا عن المشاركة مع الغير. - الحق في الاستعارة: أي حق الفرد في اختيار شخصية مستعارة أثناء تواصله مع الآخرين. - الحق في عدم الظهور: ويقصد به أننا كمواطنين يكون من حقنا في البيئة الاتصالية أن نكون ظاهرين أو نمتنع عن الظهور نختفي دون أدني تأثير للضغط الاجتماعي كما هو الشأن في البيئة العادية, بل يمكن أيضا عدم الظهور دون أن يكون لذلك عقاب ما. كانت هذه نماذج يسيرة وسريعة لجانب من حقوق الإنسان الرقمية كما يناقشها ويتداولها العالم, وقد يتصور البعض أن هذه الحقوق مجرد فرضيات وأفكار نظرية لا أكثر, وهذا اعتقاد خاطئ, فهناك العديد من البلدان التي وضعتها موضع التطبيق في دساتيرها وقوانينها, وهناك أيضا عشرات المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية بأوضاع حقوق الإنسان بدأت تتحري وترصد مدي احترام الحقوق الرقمية في بلدان العالم المختلفة, وفي مقدمة هذه المؤسسات منظمة هيومان رايتس ووتش التي اعدت الكثير من الدراسات حول أوضاع حقوق الإنسان عبر الإنترنت بالعالم, واحتوت هذه الدراسات علي منهجيات لقياس مدي احترام حقوق الإنسان الرقمية, من بينها استطلاعات رأي تتحري وترصد ما يلي: - القوانين والضوابط التي تحكم محتوي المعلومات والاتصالات عبر الإنترنت بكل دولة. - مدي الحرية في الوصول إلي الإنترنت والمعلومات. - الموافقات الحكومية المطلوب الحصول عليها قبل الوصول للإنترنت أو قبل إنشاء أي موقع. - المعلومات المطلوب من موفري خدمات الإنترنت تقديمها إلي السلطات حول المواطنين المشتركين لديهم. - القوانين التي تنظم استخدام التشفير في الاتصالات الإلكترونية والمعاملات الإلكترونية. أوضاع الرقابة علي المحتوي بكل دولة. - سياسات حجب المواقع ومراقبتها ورصدها. - المسئولية القانونية لموفري خدمات الإنترنت وشركات نقل البيانات. - أوضاع الرقابة في مواقع إدارة وتشغيل الإنترنت كمقاهي الإنترنت والمكتبات وغيرها من المواقع التي يمكن للإنسان استخدامها في الوصول للإنترنت والمعلومات. - أوضاع الدخول المجاني والمنخفض التكلفة علي الإنترنت. لست في حاجة إلي القول بأن هذه الحقوق تعد حديثة بشكل كبير بالنسبة للمشرعين الدستوريين والقانونيين, الذين اعتادوا علي حقوق كانت ترتبها أوضاع حقبة ما قبل ثورة المعلومات وما قبل ثورة يناير, وبالتالي يحتاج الأمر إلي التبصير بها, ليس فقط بين الجمهور العام, وإنما داخل دوائر صنع القرار والجهات واللجان المعنية بكتابة الدستور المقبل, والتحدي الأكبر هنا هو كيفية تحويل المعاني والأفكار الواردة في هذه الحقوق إلي نصوص محكمة قابلة لأن توضع كمواد في الدستور الجديد, وهذه مهمة تقع مسئوليتها الأولي علي عاتق كل الأطراف الفاعلة في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, وفي مقدمتها وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وما يرتبط بها من هيئات وأجهزة, ثم منظمات المجتمع المدني العاملة في القطاع والتي يتعين عليها التحرك بسرعة لإدارة حوار واسع حول هذه الحقوق, ثم النضال بكل جدية من أجل بلورتها والذهاب بها إلي صانعي وواضعي الدستور الجديد... وللحديث بقية.