كتبت:ليلي حافظ يتساءل العديد من المواطنين في مصر عن المستقبل وكيف سيكون شكل مجلسي البرلمان المقبل وكيف سيتم تشكيل اللجنة التي سوف تضع الدستور وتصيغه, هذا الدستور الذي سيحدد شخصية مصر لسنوات قادمة. ويبحث الجميع عن دروس الدول الأخري التي سبقتنا الي الديمقراطية نستشف منها الخطوات لنطمئن علي المستقبل ونضمن استمرار الديمقراطية. ويبرز التساؤل الاساسي: وضع الدستور قبل الانتخابات التشريعية ام الانتخابات التشريعية قبل الدستور؟ وان كان لكل دولة خصوصيتها وظروفها في وضع دساتيرها فانه من المفيد ان نعرف كيف وضعت الدول الديمقراطية التي سبقتنا دساتيرها خاصة الدول التي شهدت ثورة شعبية مثل فرنسا او تلك التي نشأت حديثا مثل الولاياتالمتحدةالامريكية. في كل الحالات لم تكن الساحة السياسية في الدول السابق ذكرها خالية من المؤسسات كما هو الحال اليوم في مصر, ففي الولاياتالمتحدةالامريكية التي يعتبر دستورها اقدم دستور لازال يجري العمل به حتي الآن قام الكونجرس الذي تشكل من ممثلي12 ولاية من بين الولايات الثلاث عشر في ذلك الحين بالدعوة لعقد لجنة من ممثلي الولايات لوضع دستور للبلاد بعد ان تبين ان قوانين الكونفدرالية لم تعد مناسبة لتسيير أمور البلاد فلم يكن للكونجرس في ذلك الوقت أية سلطات حقيقية كما كانت اوضاع الفيدرالية في تدهور مالي واقتصادي وسياسي لذا كان لابد من تغيير المواد القانونية ووضع دستورا للبلاد. وهو ما تم في عام1787 وقام ممثلو الولايات بالتصويت علي المواد النهائية له. واستمر الدستور الامريكي حتي اليوم ليصبح اقدم دستور لازال يعمل به. بالنسبة لفرنسا ففي العهد الملكي وكلما واجهت البلاد أزمة كان الملك يدعو الي تشكيل ما اطلق عليه' المقاطعات العامة' وهي مجالس استثنائية تضم ممثلين عن الطبقات الثلاث المختلفة في فرنسا وهي رجال الدين والنبلاء والبرجوازية من مختلف المقاطعات الفرنسية لبحث سبل الخروج من الازمة. وكان الملك هو الذي يحل هذا المجلس في الوقت الذي يختاره. وفي عام1789 دعا الملك الي تشكيل المقاطعات العامة لمناقشة الازمة المالية التي كانت فرنسا تعاني منها فتحول الي مجلس دستوري حيث تقرر وضع دستور جديد لفرنسا كان نقطة انطلاق الثورة الفرنسية لانه وضع المبدأ الاساسي ألا وهو الحرية والمساواة. وتم وضع دستور جديد لفرنسا يضم المبادئ الاساسية لحقوق الانسان مستلهمة من افكار الفلاسفة الفرنسيين وميثاق الحقوق الامريكي. ولقد شهدت فرنسا العديد من التغييرات في النظام السياسي من الملكية الي الجمهورية الي الامبراطورية ثم الملكية ثم اخيرا الجمهورية كما شهدت خمس جمهوريات حتي يومنا هذا فكانت الجمهوريات تسقط عندما تواجه ازمات سياسية او عسكرية عنيفة ويتم وضع دستور جديد يدعو الي جمهورية جديدة. فنشأت الجمهورية الخامسة الاخيرة بعد ان واجهت الجمهورية الرابعة أزمة الحرب في الجزائر ودعت الجنرال ديجول ليرأس الحكومة من اجل اخراج البلاد من تلك الازمة. فاشترط ديجول ان يكون له سلطة الحكم من خلال قوانين استثنائية لمدة ستة اشهر وسلطة الدعوة الي تغيير الدستور. ولقد وافق البرلمان الفرنسي علي تلك الشروط واصدر القانون الدستوري الذي يعطي حكومة ديجول السلطة لاقتراح تغيير دستوري. علي ان يتم طرح الدستور الجديد علي الشعب في استفتاء عام. وقام ديجول بالدعوة لتشكيل مجموعة مصغرة غير رسمية تضم خبراء من كبار الموظفين ولجنة وزارية تضم ديجول ووزير العدل مهمتها صياغة مشروع دستوري, وبعدها تم تشكيل لجنة دستورية استشارية قام البرلمان بتشكيلها من اجل مناقشة المشروع واقتراح اية تغييرات بشرط الا تقوم بتغييرات في الأسس العامة واخيرا قام مجلس الدولة بدراسة الصياغة الاخيرة. وفي سبتمبر طرح الدستور علي الشعب في استفتاء عام ووافق عليه بنسبة تتجاوز79% من الاصوات. وصدر دستور1958 ليكون الدستور رقم16 في تاريخ فرنسا الذي تم تطبيقه وليشكل الجمهورية الخامسة. من تجارب الأخرين يمكن ان نتفق علي نقطتين اساسيتين: الاولي ان الدستور لا يتشكل في غياب المؤسسات, ففي كل الحالات هناك دائما مجلس تمثيلي من النظام السابق يدعو الي تشكيل مجلس دستوري لينهي وضعا متأزما سابقا ويسمح بحلول نظام اكثر ملاءمة لمتطلبات العصر الجديد. والثانية ان الدستور ليس كيانا جامدا فعلي مدي سنوات تم تعديل العديد من مواد الدساتير سواء الامريكية او الفرنسية بدون اللجوء الي تغيير الدستور بالكامل, عندما كانت تلك المواد تعرقل او لا تناسب التطورات الاجتماعية والعصرية, فعلي سبيل المثال شهد الدستور الامريكي علي27 تعديلا منذ إنشائه في عام1787 عشرة منها كانت وضع' وثيقة الحقوق' التي استلهمت منها الثورة الفرنسية بيان حقوق الانسان. وفي احيان أخري حتي ان لم تتوافق بعض المواد مع التطورات السياسية والاجتماعية فقد كانت تلك المواد تتأقلم مع التطورات بدون اللجوء الي تغييرها ففي الولاياتالمتحدة يتم حتي اليوم انتخاب الرئيس من خلال مجمع انتخابي وهو الاسلوب الذي وضع قبل مائتي عام بسبب تنامي اراضي الوطن مما يجعل من الصعب علي المواطن النائي ان يتعرف علي المرشحين, ولكن مع الثورة الاعلامية التي نعرفها اليوم والتي تسمح لكل مواطن مهما كان بعيدا ان يتعرف علي مرشحيه بشكل كامل لم يتم تعديل المادة بعد بل يمكن القول انه تأقلمت علي الوضع الجديد ولم يعد احد يهتم بالانتخاب الحقيقي الذي يتم من خلال المجمع الانتخابي. وبالنسبة لفرنسا فقد شهدت الجمهورية الخامسة تغييرات عديدة في الظروف جعلت البعض يتصور ان الدستور سوف يسقط ولكنه تأقلم مع الاوضاع المستحدثة, فبعد تنحي الرئيس الاسبق ديجول عن الرئاسة تصور البعض ان الدستور الذي يعطي الرئيس سلطات واسعة ليتناسب مع حجم الرئيس ديجول لم يعد مناسبا ان يظل العمل به مع رؤساء اخرين ولكن تقلصت السلطات لتناسب الرؤساء اللاحقين دون وقوع أزمة. ومرة ثانية وقعت أزمتان سياسيتان, الأولي عندما جاءت الانتخابات التشريعية بأغلبية مخالفة للحزب الذي ينتمي له الرئيس فاضطر في المرة الاولي الرئيس الاشتراكي ميتران ان يدعو من اليمين شخصا لتشكيل حكومة يمينية وفي المرة الثانية اضطر الرئيس اليميني شيراك دعوة رئيس الحزب الاشتراكي لتشكيل حكومة يسارية ووقع التعايش في الهيئة التنفيذية بين اليسار واليمين ومرة أخري تأقلم الدستور علي الوضع الذي لم يكن في الحسبان وتم التعايش بدون ان تثار أزمة دستورية. المهم في الدستور ان تكون له رؤية واضحة للشكل العام للنظام الجديد وهل هو ديمقراطي أم سلطوي يحمي الحريات الاساسية ويحافظ علي حقوق الانسان أم يعمل لمصلحة فئة او طبقة او مذهب معين ومع الحفاظ علي تلك الرؤية يمكن اجراء كل التعديلات التي تصبح ضرورية مع مرور السنين لتتناسب مع تطور المجتمع. ولكن الرؤية العامة لا تتغير لأنها ستكون شاملة في اركانها عادلة في تطبيقها.