إذا كانت الانتخابات النيابية سوف تجري قبل نهاية شهر سبتمبر المقبل, وأن علي البرلمان المنتخب تشكيل لجنة المائة التي عليها وضع دستور للبلاد يجري الاستفتاء عليه, فإنه علي القوي السياسية والفكرية والفقهية أن تبدأ فورا ليس في الجدل حول أيهما أولا الدستور أم البرلمان, وإنما في الإعداد لهذا الدستور والحوار الشامل حوله بحيث تجد لجنة وضع الدستور فيضا من التوجهات العامة التي تستند عليها وتسترشد بها. المسألة هنا ليست سهلة كما يتصورها البعض, وفي أحد البرامج التليفزيونية أصر أحد المثقفين الكبار علي أن المسألة بسيطة للغاية, فهناك بالفعل من أعد دستورا في إحدي كليات الحقوق, وهناك من فعل ذلك في إحدي الجمعيات المدنية, ولدينا دائما دستور عام 1954 الذي ألقيناه في القمامة ولكنه كان الأصل الواجب في دساتير ثورة يوليو, واستطرد الرجل الفاضل قائلا إنه لا توجد مشكلة فمن الممكن الحصول علي دستور خلال يومين. القضية ليست بالطبع بهذه البساطة, ولو كان الأمر كذلك لما اقتضت الأمور شهورا وسنوات لوضع دساتير بلدان أخري, ولا يوجد ما يقطع بأن الدساتير التي أشار لها متحدثنا السابق متطابقة ويمكن تسطيرها كما تكتب الروايات القادمة من خيالات كاتب. والحقيقة أن ما يقال عن الدساتير أنها تمثل أبا للقوانين في الدول هو مجرد اختصار للمهمة العظمي التي تقوم بها, لأنها في جوهرها تمثل التصميم وعملية الهندسة السياسية للمجتمع بأكمله وكيف يدير حياته ويتخذ قراراته ويبني مستقبله. وبهذا المعني فإن الدستور بقدر ما يمثل تقاليد جارية في العالم كله; فإنه من ناحية أخري يرتبط بالتطور السياسي في المجتمع والتوجه الذي يرغب في السير فيه. وكما ذكرنا في مقالات كثيرة سابقة قبل الثورة وبعدها أن التوافق المصري قائم علي الفكرة الديمقراطية والانتخابات النزيهة وتداول السلطة ووضع حدود زمنية لتولي المناصب العامة; ولكن بعد ذلك لا يوجد كثير من التوافق علي أمور مهمة ينبغي أن تطرح في مقدمة الرأي وعند إبداء الحكمة. ومن المؤكد أن هناك فجوات كثيرة في التوافق حول علاقة الدين بالدولة, والدولة والمجتمع, ومركزية الدولة ولا مركزيتها, وعلاقة الدولة بالخارج سواء لأهداف اقتصادية أو لحماية الأمن القومي. في كل ذلك نحن لا نتحدث عن سياسات تتغير بتغير الأيام أو الظروف وإنما عن قواعد قانونية ملزمة, ومؤسسات تتجسد فيها, وتبعات مالية ومسئولية فردية وجماعية. وكما هو سائد في كثير من الأحوال فإن للدساتير في العموم عمارة واحدة تتمثل في باب المقدمة الذي يضع المبادئ العامة للدولة, ثم ثلاثة أبواب تخص السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية, ثم أبواب بعد ذلك تتوقف علي احتياجات كل مجتمع بعينه لوضع أسس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضا بشكل عام أو ما يخص تنظيم العلاقة بين مركز صنع القرار وأقاليم الدولة المختلفة. وأظن أن الجماعة الفكرية المصرية بذلت جهدا ليس بالقليل خلال الفترة الماضية بعيدا عن الأحاديث التليفزيونية السهلة في التأكيد علي المبادئ فوق الدستورية التي لا يجوز التخلي عنها مهما كانت الظروف من أول حقوق الإنسان الأساسية حتي ما يجعل الدولة دولة حقا قائمة علي عقد اجتماعي ما بين القاطنين فيها وهي حقوق المواطنة. بقيت معضلة وحيدة طالما صبغت النقاش العام حول المبادئ الأساسية للدولة وهي التي ذاع الحديث عنها طوال السنوات الماضية والمتعلقة بالمادة الثانية من دستور 1971 بعد تعديلها عام 1980 وتنص علي أن الدين الإسلامي هو دين الدولة, ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. الأمر هنا له طبيعة فكرية وفقهية في جانب; وطبيعة سياسية في جانب آخر, وللأسف فإن كليهما ليسا في جانب واحد. فالأصل في الدولة الحديثة أن الدولة ليس لها دين بعينه فهي تعبير عن علاقة بين بشر أحرار ربما كان لهم أديان أو معتقدات مختلفة أو لهم أفكار تتغير مع تغير الظروف والأحوال. وفي الدول التي انطوي تاريخها علي رموز دينية انطبعت علي نظم الحكم فيها فهي إما ألغتها خلال ثورات تاريخية, أو أنها جمدتها وجعلتها جزءا من رموزها وتاريخها, أو أنها وضعت نصوصا واضحة علمانية تفصل الدين عن الدولة كما هي الحال في الدستور التركي. وفي كل الأحوال فإن الدساتير الحديثة للدول التي حصلت علي حرياتها السياسية خلال العقدين الأخيرين خلال الموجة الثالثة للديمقراطية فإنها تجنبت الموضوع كلية تاركة الأمر في نطاق الحريات الشخصية وعلاقة الإنسان مع خالقه. وحتي عندما وصل حزب العدالة والتنمية التركي إلي الحكم, وتطلع إلي تعديل الدستور, فإن جل اهتمامه لم يكن نزع الصفة العلمانية عن الدستور وإنما تحويل الدولة من النظام البرلماني إلي النظام الرئاسي. ولكن المسألة هنا ليست في السير كما يسير العالم أو وفق خطواته حتي لو كان ذلك مهما; فالأكثر أهمية هو مدي قبول الرأي العام المصري لخطوة سياسية بعينها. ورغم أن هذا النص لم يكن موجودا في أي من الدساتير المصرية السابقة; كما أن هناك إجماعا مصريا علي سوء حال دستور عام 1971, فإن هذه المادة وحدها يمكنها, وهذا تقدير شخصي, يمكنها أن تؤدي إلي انقسام مصري عميق تكون نتائجه السياسية مؤذية لكل مناحي التوافق المصري في مجالات أخري. ولما كان دفع الضرر مقدما علي جلب المنفعة فإن بقاء المادة كما هي من ضرورات السياسة. والحقيقة أن المادة في جوهرها ليس محتما أن تصبغ الدستور بصبغة دينية; فالجزء الأول منها تم التوافق عليه من خلال اللجنة التي وضعت دستور 1923 علي أساس أنها تعبر عن هوية الدولة وثقافتها. أما المعضلة فتمكن في سوء استخدام الجزء الثاني منها والذي يقول إن مبادئ الشريعة الإسلامية تشكل المصدر الرئيسي للتشريع. هنا فإن سوء الاستخدام يجنح دوما إلي حذف كلمة مبادئ ثم بعد ذلك تمضي إلي الشريعة الإسلامية نفسها فتصبح عملية التشريع نوعا من الإفتاء وليس الاجتهاد في مصالح العباد. مثل هذه المعضلة السياسية يمكن حلها من خلال مادة أخري تقول بوضوح مبادئس أو كثير عن المبادئ الإنسانية التي ارتضتها الحضارة العالمية في مواثيقها وتعهداتها المعروفة. ولعل ذلك كان دائما مصدر فخر الإسلاميين المعتدلين الذين يؤكدون أنه لا إكراه في الدين وغيرها من المبادئ التي تؤكد الحرية والكرامة والعدالة والمساواة بين البشر, وحقهم في التعامل مع دنياهم التي هم أعلم بها. وحتي لا يترك أمر للصدفة, أو للتعامل فإن مادة أخري خاصة بالحرية الدينية للأقليات والمذاهب والمعتقدات تتميز بالصراحة والوضوح يمكنها أن تجعل الدستور أكثر توازنا, وتعطي اطمئنانا لمن يخاف ويرهب إساءة استخدام المادة الثانية لمن يطغي أو يتكبر. حل هذه القضية في جانبيها الفقهي القانوني والفكري السياسي سوف تزيل الكثير من الشكوك والهواجس وتفتح الباب لمناقشة الكثير من القضايا الأقل حساسية, ولكنها ليست الأقل أهمية لأنها هي التي تقع في قلب العمل السياسي. هنا فإن مبدأ الفصل بين السلطات, واستقلال بعضها عن بعض, وموازنة كل منها للسلطتين الأخريين في عملية دقيقة تتيح المراقبة والمؤاخذة والمحاسبة, يمكنه وضع الأساس لتناول كل منها وما يستحق من تجديد علي الدساتير السابقة. ولكن قبل الحديث عن سلطات الحكم الثلاث فإن التوافق ضروري علي التخلص من أشكال الشذوذ المختلفة والواردة في دساتير ثورة يوليو التي لا تقتصر علي ما أعطته لرئيس الجمهورية من سلطات إمبراطورية, وإنما علي إدخال أشكال من النصوص لا يوجد ما يماثلها في دستور آخر في العالم. وأخص هنا بالذكر أمرين الأول يتعلق بنسبة الخمسين في المائة- علي الأقل- المقررة للعمال والفلاحين, والثاني تلك المادة التي تعطي للصحافة ما عرف بالسلطة الرابعة بينما هي تحت السيطرة الفعلية للسلطة التنفيذية والتشريعية من خلال المجلس الأعلي للصحافة. ومع كل التقدير لبعض الآراء القادمة من اليسار للتمسك بنسبة العمال والفلاحين, أو هؤلاء المصممين علي نسبة أو كوتةس التقاليد الذائعة في البلدان الديمقراطية, فإنه كان دائما عاملا من عوامل تعقيد العملية السياسية وجعلها قابلة لفتح أبواب التزوير أو جهنم, وكلاهما يحرق ويدمر. هنا فإن اليسار والمجتمع المدني المصمم علي حقوق الفلاحين والعمال والمرأة لا يظلمون الوطن كله وإمكانية تحوله نحو الديمقراطية; وإنما يظلمون هذه الفئات ذاتها عندما يجعلون ما يحصلون عليه من امتيازات غير مبررة أساسا للتلاعب بالعملية السياسية كلها. لقد تحدثنا من قبل كيف أن جوهر عملية التغيير في مصر أن تصبح دولة طبيعية, وعندما يحدث ذلك بالنسبة للقوي الاجتماعية التي تتاح لها امتيازات خاصة, فإن الحالة الطبيعية لا تكتمل إلا عندما تخرج الدولة من مجال الإعلام الذي كان لصيقا بالشكل التعبوي للدولة وقدرتها علي حشد المنافقين والأنصار. والحقيقة التي عشتها في الصحافة القومية, والتليفزيون القومي, كانت دائما ضغوطا متوالية تبدأ دائما بالاندهاش من أن يأتي نقد أو تقييم من مصادر قومية, ثم بعد ذلك ينقلب الاندهاش إلي عتاب بأن مثل ذلك يليق فقط بصحف وإعلام المعارضة الذي لا يراعي المصالح الوطنية, وتنتهي نوبة الضغوط في النهاية بتهديدات من أنواع مختلفة. وللحق فإن قصة الإعلام القومي لم تكن مرتبطة بعهد بعينه, بل إنها ارتبطت بعهود ثورة يوليو كلها وإذا كان هناك درس مفيد فيها فهو أن تخرج الدولة من الموضوع. ahram.org.egamsaeed@