قامت ثورة يناير من أجل تثبيت وتطوير وتعميق واحترام حقوق الإنسان المصري الأساسية التي نصت عليها الشرائع السماوية والقوانين والمواثيق الدولية والمحلية, وهي حقوق لم تعد مادية فقط, بل أصبح بينها شق رقمي يعرفه العالم الآن. تحت مسميات مختلفة من بينها: حقوق الإنسان في مجتمع المعلومات- حقوق الإنسان في العصر الرقمي وغيرها, وهي حقوق يتعين الدفاع عنها والنص علي صيانتها وحمايتها في الدستور الجديد, حتي لا نصحو ذات يوم مثلا وقد سلبنا أحد حقنا في التواصل والمعرفة, بسبب فعل مشابه لما أقدم عليه زبانية النظام السابق في الأيام الأولي للثورة, حينما قطعوا الاتصالات, واللافت للنظر أن هذا النوع من الحقوق يغفله كل من شكلوا أو أعلنوا نيتهم تشكيل أحزاب للوصول إلي البرلمان الذي سيقوم بتشكيل لجنة وضع الدستور الجديد, كما يغفله من أعلنوا نيتهم الترشح لرئاسة الجمهورية, ويحدث هذا التجاهل علي الرغم من أن الأحداث أثبتت أن الحقوق الرقمية التي انتزعها شباب الثورة وبرعوا في استخدامها كانت هي العامل الأول في بروز فكرة الثورة وإطلاق فعالياتها خاصة في البداية, وحقيقة لا أعرف هل تجاهل الحقوق الرقمية للإنسان المصري في حديث مؤسسي الأحزاب ومرشحي الرئاسة أمر يحدث جهلا أم عمدا. يمكن القول إن حقوق الإنسان الرقمية يقصد بها إجمالا الحقوق التي تضمن للإنسان القدرة علي تداول المعلومات والبيانات في البيئة التي يعيش فيها, والحق في الوصول إليها واستخدامها, القدرة علي الاتصال والتواصل مع بيئته أو مع من يريد من خلال خطوط وشبكات الاتصالات. وليس من قبيل الترف الحديث عن هذه النوعية من الحقوق الآن, فالحوار الوطني بدأ, والتحضير للانتخابات البرلمانية والرئاسية علي قدم وساق, وإذا لم تحظ القضية بالاهتمام الواجب الآن فسوف تطوي صفحتها في زحام الحديث عن القضايا والحقوق المعتادة الأخري, لتظل الحقوق الرقمية للإنسان المصري نسيا منسيا, مثلما كان الحال في العهد البائد والرئيس المخلوع وأجهزته الأمنية العاتية طوال السنوات الماضية. وحقوق الإنسان الرقمية ليست من القضايا وليدة اليوم, فجذورها ممتدة للوراء حتي بداية تسعينيات القرن الماضي, حينما تحدث الكثيرون حول العالم عن أن قدرة الانسان علي إجراء مجرد إجراء المكالمات التليفونية هي حق من حقوق الإنسان الرقمية, ثم بدأت القضية تتبلور وتكتسب مزيدا من النضج والوضوح والأهمية مع موجة الانتشار السريعة لشبكة الإنترنت في بداية النصف الثاني لتسعينيات القرن الماضي, ثم ازدادت وضوحا وأهمية مع التوجه الواسع والمتزايد صوب توسيع نطاق الاعتماد علي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بصورها المختلفة في شتي مناحي الحياة وزيادة الدور الذي تلعبه هذه التكنولوجيا كأداة من أدوات التنمية الشاملة والترفيه والخدمات ثم كأداة للتعبير عن الرأي والمشاركة المجتمعية ومراقبة الحكومات والتغيير السياسي الجذري. والآن انتهي الأمر بأن المعلومات الرقمية لم تعد فقط أداة للمساعدة في تنمية الفرد, بل تجاوزت ذلك وأصبحت ضرورة حيوية لا يستطيع الإنسان الحياة بدونها, فإذا كان الإنسان الآن يحتاج إلي خدمات المأكل والمشرب والمسكن; لكي يتمكن من الحياة, فمثلا نجد أنه في الهند أصبح الحق في الرعاية الصحية في بعض المناطق النائية ببعض الولايات مرتبطا وممزوجا بالقدرة علي استخدام رسائل التليفون المحمول النصية القصيرة, فرسالة نصية قصيرة تكتبها شابة هندية مدربة علي شاشة محمول أصبحت كفيلة بإنقاذ حياة شخص كان لا يجد الدواء أو العلاج من قبل, وفي بوليفيا تحولت الإنترنت إلي شريان حياة لآلاف من صغار مزارعي الكاكاو والبن بالقري والريف والمناطق البعيدة, وأصبحوا يستخدمونها في التسويق والتوزيع والوصول للأسواق الخارجية والحصول علي المعلومات الخاصة بالإرشاد الزراعي والإنتاج, ولم يعد ممكنا الاستغناء عنها, وفي كمبوديا تستخدم الإنترنت من أجل تدعيم قدرة سكان القري البعيدة والمعزولة علي ممارسة حقوقهم السياسية والمشاركة في العملية الديمقراطية. وقد فرضت هذه الأمور حقائق جديدة غيرت المعادلة الثنائية التقليدية القائمة علي أن عنصري الخبز والحرية هما الأصلح للتعبير عن حقوق الإنسان وصيانتها, ودفعت إلي الساحة بمعادلة جديدة ثلاثية الأطراف تقضي بأنه في العصر الرقمي ومجتمع المعلومات العصري لم يعد مطلوبا من الدولة أن توفر لمواطنيها الخبز والحرية فقط, بل لابد أن يكون معهما طرف ثالث هو المعلومة والبيان والحاسب وشبكة المعلومات والاتصالات. لذلك صدرت أثناء دورتي انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات في جنيف2003 وتونس2005 وما بعدهما العديد من الوثائق والمبادرات والقوانين الدولة المتعلقة بحقوق الانسان في العصر الرقمي ومجتمع المعلومات, ويعد الإعلان العالمي لمجتمع المعلومات الصادر عن الدورة الأولي للقمة مثالا بارزا في هذا الصدد, وأذكر أنني ارودت فيما كتبته عن أعمال القمة أن فكرة الحرية وحقوق الإنسان الرقمية وأبرزها الحق في الوصول والحصول علي المعلومات كانت هي روح الإعلان, فالبند الأول في الإعلان الذي تحدث عن الرؤية المشتركة عالميا لمجتمع المعلومات قال: مجتمع المعلومات يرتكز علي الناس ويستطيع كل فرد فيه أن يخلق المعلومات والمعارف وأن ينفذ إليها وأن يستخدمها ويتقاسمها, والمعني هنا أن ركيزة مجتمع المعلومات أن يكون الفرد متمتعا بحق توليد واستخدام وتقاسم المعلومات, ثم اكد البند الثاني من الإعلان المعني نفسه مرة أخري قائلا: يقوم مجتمع المعلومات الذي ننشده علي المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأممالمتحدة, والإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وأن يكون قادرا علي تحقيق النفاذ الشامل إلي المعلومات واستخدامها في خلق المعارف وتجميعها ونشرها. وفي البند الرابع من الإعلان ارتفعت درجة وضوح هذه الروح بشكل كبير, حيث جاء في هذا البند أن الحرية والحق في الحصول علي المعلومات هو الفرضية المنطقية الضرورية التي يقوم عليها مجتمع المعلومات, ويقول نص هذا البند إن حرية التعبير وحرية الرأي, والحق في استقاء المعلومات والأفكار وتلقيها ونشرها بغض النظر عن الحدود الجغرافية علي النحو المكرس في المادة19 والمادة29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي الفرضية المنطقية الضرورية التي يقوم عليها مجتمع المعلومات. وتكرر الحديث بشكل أو بآخر عن حق الوصول للمعلومات والحصول عليها مرات أخري عديدة, منها البند الخاص بتعزيز استخدام تكنولوجيا المعلومات في مراحل التعليم والتدريب وتنمية الموارد البشرية, وفي البند الخاص بالعلاقة بين مجتمع المعلومات والحكم السليم والديمقراطية, وتعزيز العلاقات مع المواطنين, وأيضا في البند الخاص بتوحيد المقاييس والمعايير المستخدمة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, حيث يركز علي ضرورة تبني المعايير المفتوحة التي يمكن استخدمها بقدر اكبر من الحرية عند الاختيار والتشغيل حيث يذكر هذا البند أنه ينبغي التركيز بشكل خاص علي وضع مقاييس دولية وعلي وضع مقاييس مفتوحة قابلة للتشغيل البيني وغير تمييزية وتدفعها قوي الطلب, وفي البند46 يعاود الإعلان التركيز من جديد وبشدة علي حق الوصول للمعلومات والحصول عليها, قائلا: لا بد لأي مفهوم لمجتمع المعلومات من وجود وسائط مستقلة وتعددية وحرة وفق النظام القانوني لكل بلد علي أساس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وخاصة منه المادتين19 و29, ينبغي أن يتاح للأفراد ووسائط الإعلام النفاذ إلي المعلومات المتاحة, فمن المبادئ المهمة لمجتمع المعلومات حرية النفاذ إلي المعلومات واستعمالها, من أجل إقامة المعرفة وتراكمها ونشرها. وقد تواصل الاهتمام بحقوق الإنسان في العصر الرقمي ومجتمع المعلومات بعد انتهاء أعمال الدورة الثانية للقمة في تونس, حيث ظهرت علي الساحة منظمات مدنية وهيئات دولية وإقليمية ترصد وتدقق في حالة هذه الحقوق وأوضاعها بكل مكان بالعالم, وبدأنا نشهد تقارير دورية وشهرية وسنوية تتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان الرقمية جنبا إلي جنب مع تقارير رصد حالة حقوق الإنسان بشكل عام. وفي الوقت الذي كانت حقوق الإنسان الرقمية تحظي بمزيد من الاهتمام عالميا وتجد طريقها إلي الاتفاقات الدولية والدساتير والقوانين الوطنية, لم يكن أحد في مصر والمنطقة العربية يعبأ ككل بهذا الأمر, ففي التعديلات الدستورية التي اجراها النظام السابق علي دستور1971 لم يأت ذكر هذه الحقوق علي شفاه أحد, لا من الحكم ولا من المعارضة ولا منظمات وجماعات المجتمع المدني, وظل الدستور لا يعبأ بهذه القضية, فعلي سبيل المثلا نجد أنه من بين211 مادة بذلك الدستور الذي عطل بعد الثورة, كانت هناك ثلاث مواد ذات علاقة واهية وضعيفة جدا بالحقوق الرقمية وهي: المادة45: لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون, وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة, وسريتها مكفولة, ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة ووفقا لأحكام القانون. المادة207: تمارس الصحافة رسالتها بحرية وفي استقلال في خدمة المجتمع بمختلف وسائل التعبير, تعبيرا عن اتجاهات الرأي العام واسهاما في تكوينه وتوجيهه, في اطار المقومات الأساسية للمجتمع, والحفاظ علي الحريات والحقوق والواجبات العامة, واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين, وذلك كله طبقا للدستور والقانون. المادة210: للصحفيين حق الحصول علي الأنباء والمعلومات طبقا للأوضاع التي يحددها القانون, ولا سلطان عليهم في عملهم لغير القانون. كان هذا تمهيدا أراه ضروريا قبل الإجابة عن السؤال المهم: ما هي علي وجه التحديد حقوق الإنسان المصري الرقمية التي نطالب بتبنيها في الدستور والبرلمان الجديد؟.. هذا ما أتناوله الأسبوع المقبل.