قلت صادقا إنني عشت في يوم11 فبراير فرحة تكفي عشرة أعمار, لا عمرا واحدا, أيقظ انتصار الثورة في نفسي آمالا ذوت, أو أوشكت, في أن أري فيما تبقي من حياتي مشرق نور بعد سنوات الظلام الحالك الذي أطبق علي مصر وطال أمده.. ويظل فرحي يتجدد بلا انقطاع وأنا أعايش لحظات المجد التي صنعت تلك الثورة: صوت الميدان الهادر. وصورته إذ تصنع ملايينه دائرة زهور عملاقة.. دبابات الجيش يعتليها الكبار والصغار ويعانقون جنودها بمحبة. أما حين أصل إلي اللحظة التي يرفع فيها الضابط الكبير يده بالتحية العسكرية لذكري شهداء الثورة فإن قلبي يرتجف لجلال اللفتة ولأنني أري الوجوه الناضرة لهولاء الشبان الأبرار الذين دفعوا بدمائهم الزكية ثمن حريتنا. لا تغيب عن عيني صورهم المعلقة علي الجدار أمامي والمحفورة في قلبي. وأبسط وفاء لهؤلاء الأبناء الذين افتدوا آباءهم وإخوانهم هو أن نواصل العمل لتحقيق المبادئ التي من أجلها بذلوا حياتهم. تلك رسالة وأمانة علينا مسئولية الوفاء بها. من هنا تلح علي ذهني أسئلة تشغل الشارع بعامة ومن يتاح لي أن ألقاهم من شباب الثورة وتتعلق بالأمن, وبالإعلام ونظام الحكم. الأولوية القصوي هي الآن لقضية الأمن. لا يشعر المصريون الآن بالأمان, لا في مدنهم وقراهم ولا حتي في بيوتهم. قد يكون هناك شئ من المبالغة في هذا الشعور, بمعني أن الحالة الأمنية قد لا تكون بهذا السوء وقد لا تكون البلطجة بهذا الانتشار والتغلغل, رغم فداحة ما تنشره الصحف كل يوم, ولكن علماء الاجتماع والنفس يقولون لنا إن افتقاد الشعور بالأمن أخطر من غيابه الفعلي. وأنا أعرف أشخاصا لا ينزلون من بيوتهم في المساء ويفرضون علي أنفسهم وأسرهم حظر تجول طوعيا يكسبون راحة البال. وقد قرأت أخيرا حوارا صحفيا مع السيد وزير الداخلية شرح فيه الأسباب التي تحول دون انتشار الشرطة بكامل قوتها, وأرجع ذلك إلي أسباب منها نقص الميزانية اللازمة للشرطة ونقص الأفراد المؤهلين, وبعد أن أشار إلي الخطوات التي تتخذها الوزارة لتحقيق تحسن تدريجي في الحالة ختم حديثه بالقول إن الأمن سيستتب وستعود الأمور إلي طبيعتها خلال أشهر قليلة. أشهر يا سيادة الوزير؟ الناس تريد الأمن الكامل غدا, بل بالأمس لو أمكن! ورغم احترامي الكامل لخبرة الوزير وثقتي بأنه يتكلم عن علم بأبعاد مشكلة قد تغيب عنا تفاصيلها إلا أنني والمواطنين العاديين لا نحتمل أي مبررات للتأخير. ولو عرض علينا الوزير ورئيس الوزراء الآن تخصيص كامل الميزانية اللازمة لإصلاح أوضاع الشرطة وخصم هذه الميزانية من قوت يومنا, أي من ميزانية التموين والطعام والشراب لقبلنا هذا العرض دون تردد. نعلم أن إصلاح حال الأمن سيؤدي إلي عودة طاقة الإنتاج بالكامل ويعجل بانعاش الاقتصاد. وأذكر أني سئلت في تحقيق صحفي خلال الأسابيع الأولي من انسحاب الشرطة والانفلات الأمني عن كيفية إصلاح الوضع واستعادة الثقة بين الشعب والشرطة. وأجمع كل المشاركين في هذا التحقيق علي ثلاثة عناصر أساسية: ضرورة محاسبة المنحرفين من رجال الشرطة واستبعادهم, وإصلاح الأوضاع المادية للضباط والجنود بما يقطع دابر الانحراف, وضخ دماء جديدة في الجهاز عن طريق الإسراع في تخريج دفعات جديدة من كلية الشرطة, وتعيين أعداد كافية من خريجي كليات الحقوق بعد فترة تدريب قصيرة. ولو راجع السيد الوزير تعليقات القراء علي حواره الصحفي علي صفحات الإنترنت, فسيجد أن هذه مازالت هي اقتراحات غالبية المواطنين لإصلاح الحال, مصحوبة بكثير من التفاصيل والأفكار المفيدة. عشت فترة في بلد أوروبي يعاني نقص السكان, ويعالج هذا النقص بتشجيع العمل التطوعي في مجالات من بينها الشرطة, وعندنا في مصر تجربة مشرفة في هذا المجال, هي اللجان الشعبية التي حمت البلاد في عز الانفلات الأمني, وهؤلاء هم أصدقاء للشرطة والوطن يمكن أن يسدوا نقصا ويمكن عن طريق تنظيم عملهم مع جهاز الأمن أن يجسدوا بالفعل شعار الشرطة والشعب يد واحدة. سيادة الوزير ما يطالب به الشعب ويحتاجه هو جهاز شرطة كامل العدد والعدة, يعمل أفراده في أسرع وقت لحماية الوطن بشجاعة وحزم ويتمتعون باحترام الشعب وتأييده حين يعملون في إطار القانون. وهذا ممكن فليوفقك الله لإنجازه. المسألة الملحة الثانية هي الإعلام ونظام الحكم.ولا أقصد بذلك أي اقتراحات أو آراء تتعلق بمستقبل نظام الحكم. هذه مسألة حسمت وقضي فيها الأمر بعد الاستفتاء الشعبي وتعديل الدستور. أصبح أمامنا الآن برامج معلنة وخطوات محددة التوقيتات للانتخابات البرلمانية والرئاسية, فلا جدوي إذن من العودة الي هذه الأمور, وحتي لو كانت للبعض منا ملاحظات أو تحفظات فقد فات أوانها. ما أعنيه هو ما يحدث الآن وخلال الأشهر المقبلة قبل هذه الاستحقاقات. ما هو النظام الذي يحكمنا في هذه الفترة بالضبط؟ وبعبارة أوضح, ما هي حدود اختصاصات المجلس العسكري واختصاصات مجلس الوزراء؟ لمن يجب أن نوجه الشكر والثناء حين نري قرارا صائبا, ولمن يجب أن نوجه النقد عندما يحدث ما لا نرضاه؟ مثلا, من المسئول عن السياسة العليا للإعلام الحكومي. لقد تم( لحسن الحظ) حل وزارة الإعلام, وإبعاد بعض( وليس كل) الإعلاميين المؤيدين للعهد البائد.. فمن الذي أبعد, ومن الذي أبقي من بقي وعلي أي أساس؟ هناك أسئلة تحتاج إلي إجابات واضحة. مثلا, سمعت في التليفزيون أحد قادة المجلس العسكري يقول ردا علي سؤال: إن المجلس لا ينحاز إلي أي تيار فكري أو سياسي, وقال بوضوح نحن لسنا من الإخوان المسلمين. قال هذا وأنا أصدقه. فمن إذن الذي يدعم هذه الجماعة في أجهزة الإعلام والحكم؟ لقد دهشت وكثيرون غيري حين ضمت لجنة تعديل الدستور محاميا من جماعة الإخوان لم يكن له سابق شهرة كفقيه قانوني, بينما غاب عن اللجنة أي تمثيل لأحزاب أو تيارات سياسية أخري.. ولم يكن هذا التمثيل مطلوبا فهي لجنة من الخبراء يرأسها قاض جليل يتمتع باحترام الجميع هو المستشار طارق البشري, فلماذا إذن كان هذا الاستثناء للإخوان؟ ولماذا أصبح ممثلهم في اللجنة بعد ذلك دائم الظهور علي شاشات التليفزيون في أثناء التعديل الدستوري وبعده وكأنه المتحدث الرسمي؟ ومادام الشيء بالشيء يذكر فمن المسئول عن الترويع الإعلامي للجماهير بالإسلاميين المتطرفين علي شاشات التليفزيون في الأسبوع السابق علي الاستفتاء مباشرة؟ وكيف ندهش وقد سمحنا بهذا الغزو الإعلامي من انتعاش الجماعات السلفية والمتطرفة بعد ذلك وتجرئها علي مالم تكن تجرؤ عليه من قبل؟ فها هم يطبقون حدودا ما أنزل الله بها من سلطان ويهاجمون مساجد خصومهم الفكريين ويقطعون الطرق والسكك الحديدية ولا يبدو أن هناك ما يردعهم أو من يردعهم عن مواصلة اجترائهم علي المجتمع والدولة. وكم كان يمكن أن تتغير صورة حياتنا لو تغيرت زاوية هذا الانحياز! أتخيل ما كان يمكن أن يحدث لو انصب كل هذا الاهتمام الذي حظي به الإخوان والسلفيون علي حركات شباب ثورة52 يناير التي بدأت واستمرت حتي نجاح الثورة حركة مدنية وتقدمية, غير أنهم سرعان ما استبعدوا من المشهد. لم نترك للشباب وسيلة للتعبير عن أنفسهم بصورة منظمة غير التظاهر في ميدان التحرير, وحتي هذا لم يستمر طويلا وأصبح موضع رفض واستنكار ثم موضع اتهام ومطاردة بسبب المندسين. كان ينبغي منذ البدء تشجيع حركة شباب الثورة علي أن يكون لها حضور مؤسسي في سلطة اتخاذ القرار, فمن الصحيح أن الجيش هو الذي حمي الثورة وأن المجلس العسكري هو الذي يواصل حمل أمانتها ولهذا ندين له بعرفان غير محدود بالجميل, فلولا الجيش لما نجحت هذه الثورة, ولكن صحيح أيضا أنه لولا هؤلاء الشباب ودعم الشعب لهم لما كانت هناك ثورة أصلا. فأين الآن دورهم؟ لقد خذلهم الإعلام ومن يتحكمون فيه حين انحاز للماضي بدلا من المستقبل. لهذا فإن علينا الآن, نحن الشعب, أن ننحاز لصفهم وأن ندافع عن حقهم وحقنا في المشاركة الفعالة في السلطة واتخاذ القرار. المزيد من مقالات بهاء طاهر