الغضب الساطع لشباب مصر من أجل التغيير كان لحظة حاسمة في تاريخ الوطن عشتها في هذه الليالي مع جسدك ليل جمعة الغضب: إلا دموع يوسف.. كان يلوذ بصدري، مرتجفاً، فزعاً، جزعاً، يطل الرعب من عينيه البريئتين.. تقطعت أنفاسه، وذهبت سدي كل محاولة بذلتها لتهدئة روعه.. ددو.. إيه ده؟ رددها حفيدي مرات عديدة، ثم ما يلبث ان ينخرط في بكاء مرير يمزق قلبي، ويزيد من احساسي بالعجز أمامه، وأمام كل ما يجري في الشارع ويصلنا صداه، وما تنقله شاشة التليفزيون علي كل القنوات، حتي اقترحت جدته اغلاق »هذا الذي يثير فزع يوسف«.. وتكفي الصرخات التي تصلنا، والتحذيرات التي يتناقلها الجيران عبر الشرفات، بعد أن اختفت الشرطة، وخرج المجرمون من جحورهم. لم يلق اقتراح الجدة ترحيباً، وخطرت ببالي فكرة: لماذا لا أحكي ليوسف حكاية طويلة؟ وبصوت تصنعت فيه الهدوء، وابتسامة زائفة رسمتها علي شفتي، وإن فضحتني ملامحي، بدأت أحكي وقد ضممت يوسف إلي صدري: يوسف.. افرح يا حبيبي ولا تفزع، نعم العنف والاجرام يسيطر علي كل ما حولنا، لكن قريباً سيتم حساب عسير لكل من خان أو تآمر علي الوطن . مازال الولد يرتجف، والدموع تحجرت في عينيه، الا ان الهدوء بدأ يتسلل إلي أوصاله، ابتسمت، رد بابتسامة مشجعة فواصلت حديثي: -يا حبيبي سوف أذكرك حين تصبح صبياً بهذه الليلة الليلاء، وستقرأ أنها كانت الرد علي ما شهدته مصر خلال أربعة أيام غيرت وجهها، وإن الغضب الساطع لشباب مصر من أجل التغيير كان لحظة حاسمة في تاريخ الوطن، عشتها في هذه الليالي مع جدك الذي تمني ان يري انتفاضة بريئة من الحسابات والألوان والولاءات. صمت لحظة، ثم تساءلت: هل تفهمني يا يوسف؟ نظرته البريئة، ودمعة مترددة كقطر ندي طاهرة انحدرت من مقلته، ثم هزة من رأسه أشعرتني أنه يفهم ما أقول: لحظات عصيبة، حاسمة، عشتها، ووعيتها منذ تفتح وعيي لأول مرة حين وقعت نكسة 76 لكني لا أذكر ان اللصوص كانوا بخسة ما يفعله كبارهم قبل صغارهم الآن، وعبر ليال استمرت سنوات طويلة، حتي فاض الكيل، ولم يعد بد من أن تتطهر المحروسة علي يد جيل كانت نظرتنا إليه ظالمة!. وكأن يوسف اعتاد جلبة الشارع ومشاهد الترويع والحرائق التي يبثها التليفزيون، واطمأن في أحضاني، فواصلت حكايتي: سوف تدرس يا حبيبي فصلاً عن حرب أكتوبر 37، في تلك الأيام المجيدة، لم تسجل أقسام الشرطة أي حادث من أي نوع، فأي نبل كان من لصوص هذا الزمن البعيد، مقابل خسة ووضاعة من قوي الظلام، التي تبتغي دفع المحروسة الي المجهول، ولو كانت ادواتها البلطجة والتخريب والترويع. اقتربت هاجر من فلذة كبدها، تعاين نتيجة المحاولة، عندما كان يوسف يرسل اشارات واضحة علي تهيئه للنوم: في انتفاضة 7791 كان جدك في الجامعة، وكاد يدفع حياته حين حاول إثناء بعض العابثين عن التخريب، بعد أن انحرفوا بالانتفاضة عن هدفها الحقيقي، ثم جاءت أحداث الأمن المركزي ُ عام 6891 وكانت أمك بعد في المهد صبية، وعشت معها لحظات سوداء كتلك، لكنها مرت، وصمدت مصر تماماً كما تجاوزت من قبل حادثة المنصة واغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1891، مصر العظيمة، وشعبها الصبور الصامد تجاوز محنا صهرته، وأزالت نيرانها الخبث وكشفت عن جوهره عندما سمعت صوت جنزير إحدي المدرعات في شارعنا، وارتفاع اصوات مكبرة مهللة خشيت ان تثير فزع يوسف، نظرت إلي وجهه الملائكي، فإذا بابتسامة مطمئنة ترتسم علي قسماته، همست في رفق: يوسف أيها الحبيب.. افرح ولا تفزع، فسيجني جيلك ثمارا طيبة لفجر جديد يطل الآن علي مصر. طعم آخر للفرحة الأحد 6 فبراير: صورتان لن تبارحا الذاكرة: أولهما في احدي الجرائد العربية، تصدرت صفحتها الأولي بعرض ثمانية أعمدة، وقائد المنطقة المركزية يُقبل رأس احد المتظاهرين. الثانية كانت ضمن السيل المتدفق من الصور التي تصلنا من مصادر عدة في صالة التحرير، صورة فريدة من نوعها: زفاف شاب وفتاة، وخلفية الصورة إحدي الدبابات كأنها »الكوشه«، بعد أن شارك العروسان في ثورة 52 يناير. كنا ندرس في كلية الإعلام ان الصورة بألف كلمة، لكن بعد هذا العمر في مهنة البحث عن الحقيقة، تكشفت حقيقة أكثر سطوعاً.. في صور من هذا الطراز الرائع الفريد، فإن الصورة بمليون كلمة، لأنها تشف عما يعجز القلم عن وصفه، ولعل القاسم المشترك في الصورتين، ليس فقط انهما مفعمتان بالمشاعر الانسانية الراقية التي تقاوم اللحظات الصعبة الملتهبة، لكن أيضا في عبقرية من سجل قُبلة الچنرال، وتحول الدبابة إلي »الكوشة«. صباح الحرية السبت »صباحية الانتصار«: ذهب الليل.. طلع الفجر.. والعصفور صوصو. صوصوة حرية وكرامة وعزة. صوصوة تبشر بزوال ليل طويل. لا أعرف لماذا عاد بي الدهر عقوداً، لأتذكر مطلع أغنية محمد فوزي الشهيرة، علي طول الطريق من مدينة نصر الي وسط المدينة. يوم ليس كمثله يوم.. وجوه مستبشرة، تحمل نفس الملامح، لكن الحزن الذي كان يحفرها علي مدي سنوات، يبدو الآن سعادة طاغية، فرح نبيل، ربما بفعل سقوط الخوف الذي كان يملأ القلوب، فيكسو الوجوه، ويطغي علي الأرواح، فيسلبها اي وهج، حتي تكاد تحسبها لكائنات شمعية شاحبة!. في تقاطع »انبي« مع عباس العقاد كان المشهد باعثاً لمشاعر متضاربة: هل يأسي المرء علي ما ضاع ام يتطلع للغد الذي بزغت شمسه مبكراً؟ شباب 52 يناير يلتف حول ضابط شاب وعدد من جنوده، يتبادلون التحية، ويحرص بعضهم علي التقاط صور خلفيتها الدبابة الرابضة منذ نزل الجيش لتأمين المحروسة، بعد ان تخلت الشرطة عن دورها، واطلق كبيرهم مقولته البغيضة: »خلي الجيش ينفعهم«!. بعد عناية الله كان درع البلاد وسيفه، جيش مصر الذي لم يخذلها حرباً أو سلماً العين الحارسة الساهرة، حتي تغفو عيون ارهقها السهاد والسهر والقلق بعد بدء خطة الترويع المنظم التي لن يفلت من وضعها او اطلقها من يد العدالة. لم يكن قد مضي علي تنحي الرئيس، وتولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة المسئولية سوي ساعات إلا ان ميدان العباسية كان غير الذي رأيته امس الأول، فيضان الفرحة دفع الناس لتبادل التهنئة، واطفال بصحبة آبائهم يلوحون بعلامات النصر لرجال الشرطة العسكرية المرابطين هناك. المشاهد، والمشاعر، والكلمات كلها تترجم روحاً جديداً، كان ثمنها دماءً طاهرة سالت، وشباباً كالورد ترك كل شيء خلف ظهره، وليس أمامه الا هدف محدد: استعادة روح مصر. حين وصلت الي مبني الاخبار، كانت الوجوه التي عهدت بعضها لسنوات طويلة، وكأنها تبدلت!. الابتسامة من القلب، التحية ودودة دون تكلف، المجاملة رقيقة بلا اصطناع و.. و... وكأن الحرية أعادت صياغة الناس في عشية وضحاها!. في صالة التحرير، الزملاء يتبادلون التهاني بالاحضان »بالأحضان يا ثورتنا يا حلوة بالأحضان« هكذا استقبلني شاب من جيل 52 يناير، أحد الأبناء الذين أصبح الاعتذار لهم واجباً، فقد أخطأ جيل الآباء وأنا منهم في تقدير حق وقدر هذا الجيل. وما أن جلست أمام مكتبي حتي دق جرس الهاتف، وجاء الصوت مجلجلاً: صباح الحرية، صباح الثورة، مبروك علينا كلنا. كان صديقاً عزيزاً، اقتسمنا معاً حلم الثورة حتي هرمنا، لكن الأبناء جددوا شبابنا حين حققوا الحلم القديم. حمداً لله، جيلي كتب له ان يشهد عبور الكرامة في أكتوبر 37 وعبور الحرية في 1102. هل يكون ثالثهم؟ الاثنين »ظهراً«: رنين الهاتف لا ينقطع، وكأن نداء عاجلا يلح في استدعائي. نعم.. برضه نعم، نفسي أسمع »آلو« منك ولو مرة، عموماً مبروك علي مصر. كلام التليفونات لا يشفي غليلاً، ألا تحتاج أن نحكي، نرتب أفكارنا بعد الزلزال الذي رج وهز كل مصري. اذن أغلق سماعتك وسأكون عندك خلال دقائق. وصل الزميل، قلت له: القهوة لا تناسب المقام، والشربات لا يوجد في بوفيه المؤسسة و.... و... وقبل أن أكمل جملتي التالية قال: لك عندم مفاجأة من العيار الثقيل جداً جداً، الأستاذ »....« يفكر جدياً في الاعتذار عن كتابة عموده اليومي. كان للخبر وقع الصاعقة، تطلعت إلي وجه صديقي، حاولت أن أقرأ مدي الجدية التي اكتست بها كلماته. ران الصمت بيننا دقيقة، ثم قال: الرجل أكد لي انه ولأسباب انسانية لن يستطيع ان يكتب، فالتحول الدرامي الذي شهدته مصر، فوق احتماله، من ثم فإن خيار التوقف عن الكتابة هو الارجح، ثم »انني لا استطيع لأسباب أخلاقية أن أهرول مع المهرولين، وأتحول مع المتحولين«.. مرة أخري لم أجد إلا الصمت رداً!. سألني الصديق الزميل: ما تعليقك علي ما سمعت؟ مفاجأة.. ثم ماذا؟ بالطبع.. موقف جدير بالاحترام، مهما كان حجم الخلاف مع الكاتب فكرياً وسياسياً. ليس هذا كل شيء.. فالرجل يقول انه سوف يعيد تقييم التجربة الناصرية. عموماً.. لا يعنيني في كل ما سمعت الا قرار الرجل بالتوقف عن الكتابة احتراماً لنفسه ومواقفه المعروفة، بعكس كثيرين استطاعوا التفوق علي الحرباء في قدرتها السريعة علي التلون. نظرت إلي صاحبي مستطلعاً، فلم يزد عن إيماءة هادئة، وكأنه يطلب مني الاستمرار. ختمت كلماتي. هل تعرف ان الرجل اذا اصر علي موقفه، واصبح قراره سارياً يكون ثالث ثلاثة: هيكل الذي لم يغيره رحيل عبدالناصر، وموسي صبري الذي لم تختلف مواقفه بعد اغتيال السادات، والأستاذ ».....« بعد تنحية مبارك. ومازال هناك كُتاب محترمون هم قلة، لكن الصحافة لن تعدمهم. ومضة ميدان فقد يوماً عنوانه صار وطناً بلا حدود بشر كموج البحر ثاروا فهدموا كل السدود خيوط فجر ودم سال أنهاراً شمس بزغت وبسمة مولود كانوا لحظتها »شهود«.