حراك حزبي لا سابق له منذ أن عرفت مصر الأحزاب السياسية بمعناها الحديث في مطلع القرن الماضي.. يتجلي هذا الحراك في إقبال مدهش علي خوض تجربة تأسيس أحزاب سياسية, واهتمام ملحوظ بالعمل الحزبي في أوساط فئات وشرائح اجتماعية عدة خصوصا في الطبقة الوسطي. . ويمكن قياس مدي هذا الاهتمام عبر متابعة أعداد من يحضرون ندوات ومؤتمرات في هذا المجال, وبصفة خاصة تلك التي تستهدف نشر المعرفة وتقديم المعلومات الاساسية التي لم يكن المصريون معنيين بها فيما مضي إلا قليلا بل نادرا. كان المشاركون في هذا النوع من الندوات والمؤتمرات يعدون علي أصابع اليدين أو أكثر قليلا, غير أن عددهم تضاعف مرات عدة في منتديات مماثلة عقدت في الاسابيع الأخيرة. والمفارقة هي أن يحدث ذلك بعد ثورة لم يكن للأحزاب السياسية دور فيها, فقد بدأت هذه الثورة وتواصلت علي مدي81 يوما بدون احزاب تتصدرها, وبمعزل عن الايديولوجيات والبرامج الحزبية, كان بعض الأحزاب القائمة يلهث سعيا لان يلحق بنبض الشارع الذي لايعرف شيئا عن أكثر من ثلاثة ارباعها. ولذلك يبدو مثيرا للتأمل ان تقود ثورة اظهرت مدي انحسار دور الاحزاب السياسية إلي اقبال واسع علي تأسيس أحزاب جديدة. غير أن هذه ظاهرة متكررة في البلاد التي شهدت تحولات ديمقراطية في ربع القرن الأخير نتيجة ثورات او انتفاضات أو ضغوط شعبية أسقطت نظما مستبدة في شرق ووسط اوروبا وفي أمريكا اللاتينية. ففي غير قليل من هذه البلاد حدث انتعاش شديد في العمل الحزبي خصوصا ان شعوبها ظلت محرومة من الحرية والتعددية السياسية لعقود عدة, وكانت هذه هي حال المصريين ايضا بالرغم من وجود عدد يعتبر كبيرا من الاحزاب, ولكنها احزاب معزولة عن المجتمع والناس. فعندما يسقط نظام صادر حقوق الناس وحرياتهم, يتحرك كثير منهم في اتجاهات شتي, ويقبلون علي العمل الحزبي بغض النظر عن قدرتهم عليه وفاعلية الاحزاب التي يؤسسونها أو حتي جديتها. وهذا هو مايحدث في بلادنا منذ اسابيع, فقد بدا المشهد منذ منتصف فبراير الماضي وكأن الاحزاب صارت وجبة يومية علي موائد كثير من المصريين, وبالرغم من ان هذه الثورة بدأت في التراجع نسبيا بعد إصدار قانون الأحزاب المعدل متضمنا شروطا يتطلب الوفاء بها جهدا كبيرا, خصوصا تأمين خمسة آلاف مؤسس واستعدادهم لتحمل نفقات عملية التأسيس, مازال المشهد يعج بالحركة الحزبية أو ذات الطابع الحزبي. غير أنه لن تمضي أسابيع قليلة حتي يتبين عدد الاخطارات التي ستتلقاها اللجنة القضائية التي تم تشكيلها في إطار القانون المعدل, وكم منها يستوفي الشروط من بين عشرات الاحزاب التي أعلن انها تحت التأسيس. وحتي إذا جاء عدد الأحزاب الجديدة التي ستؤسس في الاسابيع المقبلة كبيرا, فالأرجح أنه سينحسر يوما بعد يوم وبأسرع مما يتوقع كثير من المراقبين. وقد لا يبقي منها إلا عدد معقول بعد الانتخابات البرلمانية التي ستجري في سبتمبر المقبل. ويمكن الاستدلال علي ذلك من قراءة خريطة الاحزاب, أو بالأحري أسماء أحزاب تحت التأسيس الآن والمعلومات الضئيلة المتاحة عنها, ويمكن تصنيف هذه الأحزاب الي أربع مجموعات أساسية هي أحزاب ذات مرجعيات دينية, وأحزاب تولد من رحم الثورة, وأحزاب ليبرالية ويسارية ووسطية وعامة, فضلا عن امتدادات جديدة لأحزاب قديمة. ويبدو حزب الحرية والعدالة الذي أوشك الاخوان المسلمون علي تأسيسه هو أبرز الاحزاب الجديدة ذات المرجعية الدينية وأكبرها, وثمة محاولات جارية لتأسيس أحزاب من هذا النوع تتداخل أسماء ثلاثة منها هي النهضة, ونهضة مصر, ونهضة الأمل التنموي, وهناك أيضا حزب الفضيلة, وحزب مصر البناء ضمن أحزاب المرجعيات الاسلامية, وحزبان حتي الآن لهما مرجعية مسيحية, وهما الأمة المصرية وأبناء مصر. ويقول مؤسسو الأخير عنه إنه حزب قبطي ذو مرجعية مدنية. أما الأحزاب التي تولد من رحم الثورة فهي الأكبر عددا حتي الآن, ولكن الأرجح أن القليل منها هو الذي سيكتمل تأسيسه ويري النور,. فمؤسسو الكثير من هذه الأحزاب لا يفرقون بين الحزب السياسي والحركة الاجتماعية والمنبر الثقافي. كما أن تقارب أسماء كثير منها يجعل التمييز بينها صعبا, ويضفي علي خارطتها طابعا عشوائيا, ومن هذه الأسماء مثلا شباب التحرير وثوار التحرير وشباب52 يناير وشباب الثورة وشباب الامة الثوري وشباب مصر, وجبهة حماة الثورة واتحاد شباب الثورة, وثورة تحرير مصر وجبهة التحرير والتنمية و11 فبراير والاتحاد المصري الحر وغيرها. ولذلك ربما يكون أكثرها اقترابا من مفهوم الحزب السياسي وأوفرها قدرة علي ان تحجز لها مكانا علي الخريطة الحزبية الجديدة أحزابا لم تسع إلي استثمار كلمات ملهمة كالثورة والتحرير. ومنها مثلا حزب العدل الذي تؤسسه مجموعة كبيرة من شباب الثورة, وقليل من الأحزاب التي تحمل أسماء مرتبطة بالثورة, مثل ثوار التحرير وشباب52 يناير. ومن أهم الأحزاب الجديدة التي تتميز بطابعها الحديث وميلها الليبرالي الاجتماعي العام, حزب المصريين الاحرار والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي, وان كان عيبهما الاساسي هو ارتباطهما بأسماء أشخاص واعتمادهما المفرط علي الظهور الاعلامي, في الوقت الذي لم يختبر بعد مدي وجودهما علي ارض الواقع. وثمة أحزاب جديدة تعتبر امتدادا لبعض أحزاب عهد مبارك مثل التحالف الشعبي الاشتراكي, الذي يضم منشقين عن حزب التجمع ويساريين آخرين. اما التوحيد العربي والعمل الاسلامي المصري فهما من بين المجموعات التي انشطر اليها حزب العمل الذي كان مجمدا منذ نحو عقدين, وهناك أيضا حزب ائتلاف الغد. وليست هذه كلها إلا عينة من أحزاب جديدة يفترض أنها تحت التأسيس الآن, وسيتبين خلال أسابيع قليلة أيها سيري النور, والي أي مدي ستختلف عن الاحزاب القديمة التي انصرف الناس عنها, ورضيت بأن تكون ديكورا في النظام السابق. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد