ثلاثة أدلة تؤكد أن التعليم في المجتمعات العربية أصبح بالكامل خارج العصر, الدليل الأول, هو أن مساهمة مجتمعاتنا خلال المائة سنة الماضية في رفع رصيد البشرية من الاكتشافات والاضافات والابتكارات العلمية. كانت منعدمة أو شبه منعدمة وفي سائر مجالات العلوم الطبية والهندسية وعوالم البيولوجيا والدواء والفيزياء والكيمياء والفضاء وتكنولوجيا الفضاء والمواصلات والاتصالات, والدليل الثاني, هو أن مجمل الأدوات والآلات والمنتجات التي نستعملها إما انتجت أو ابتكرت أصلا خارج مجتمعاتنا, والدليل الثالث, هو انحدار قيمة شهادات مجتمعاتنا الدراسية( حتي الدكتوراه), لأدني المستويات, ومن التبسيط المخل أن يكرر البعض أن أس الداء هو قيام منظومات التعليم في المجتمعات العربية علي التلقين وليس علي الإبداع, فهذا عيب كبير ولاشك, ولكنه لا يلخص كل العيوب, فالمدرس أو المعلم في نظمنا التعليمية أبعد ما يكون عن المدرس القادر علي المساهمة في عملية تعليمية عصرية خلاقة, فهو امتداد للشيخ في الكتاب( بشدة علي التاء الساكنة).. وهو تجسيد لقيم شيخ القبيلة, المعروفة لدارسي سوسيولوجيا البدو( ولاسيما بدو الصحاري) والتي أساسها الطاعة العمياء والتي لا مجال في ظلها للحوار والجدل والاختلاف وتنمية العقل النقدي, كما أن المدرس والأستاذ في نظمنا التعليمية يكرسان حقيقة أن التلميذ والطالب يظلان طيلة سني الدراسة من الحضانة للدكتوراه جهة استقبال أمام المدرس أو الأستاذ اللذين يكونان( علي الدوام) جهة إرسال, وهو ما يرسخ آفة الملكية المطلقة للحقيقة, أما الفلسفة التعليمية والبرامج التعليمية فكلها تعمل عكس المنظومة القيمية القادرة علي تكوين صناع التقدم والابتكار والابداع, فهذه كلها لا تغرس في عقول وضمائر أبناء وبنات مجتمعاتنا قيم التقدم الأساسي مثل التعددية وعالمية العلم والمعرفة وقيمة الحياة الإنسانية واحترام الاختلافات الغيرية, وإعلاء قيمة حقوق الإنسان وقيمة المرأة التي هي نصف المجتمع عدديا, وأكثر من ذلك بكثير من حيث قيمة دورها كأم للنصف الآخر من البشرية والسماحة الدينية والثقافية والاهتمام بصنع الحياة والمستقبل وإعلاء قيمة العقل والنظرة الايجابية الخلاقة للنقد والعقل النقدي.. فالمؤكد أن النظم التعليمية والمدرس في المجتمعات العربية لا يغرسون هذه القيم التي بدونها لا مجال أو فرصة للتقدم والابداع واللحاق بركب التقدم العلمي والمعرفي, بل أجزم أن النظم التعليمية( والمدرس) في مجتمعاتنا يغرسون قيما مناقضة لمعظم قيم التقدم التي ذكرتها. وبالإضافة للعيوب الكارثية في البنية الفلسفية والقيمية لنظمنا التعليمية( برامج ومقررات ومدرس), فإن هناك كارثة التخلف في المادة التعليمية في مقررات العلوم التطبيقية, فمن أين لواضعي هذه البرامج بملكة وضع برامج تعليم عصرية علي أعلي المستويات في مجالات الرياضيات والكيمياء والفزياء والبيولوجيا؟ ولماذا نحاول إعادة اختراع العجلة؟ العالم من حولنا( بل العالم الأكثر تقدما) يأخذ من برامج التعليم المشهود لها عالميا بالتقدم ولا يزعم أنه قادر علي تقديم الأفضل, العالم من حولنا يجمع علي أن أكثر برامج التعليم تقدما هي الفنلندية والسنغافورية واليابانية, فيقتنيها كما هي ولا يترك وضعها لأشخاص لا يمكن أن يكونوا علي مستوي المهمة الأهم في حياة مجتمعاتنا. إن الحل الوحيد لكل مشكلات مجتمعاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يكمن في هذه الحروف السبعة( التعليم)... وهو علاج إن لم نبدأ في تناوله اليوم, فسوف تتباعد المسافات بيننا وبين التقدم والمتقدمين, ويزداد اعتمادنا عليهم, وتتفاقم وتتضاعف مشكلاتنا الداخلية من فقر لسوء خدمات لاحتقانات مجتمعية لتهديدات حقيقية للسلم المجتمعي, إن اعتماد مجتمعاتنا علي الغير تكنولوجيا, ومشكلاتنا المجتمعية المتفاقمة والتي لا تحصر, وغلبة القبلية وغير الموضوعية علي تفكير معظم أبناء وبنات مجتمعاتنا, وتصاعد الطائفية وشيوع التعصب ووقوف بعض أبناء مجتمعاتنا وراء معظم أحداث العنف في عالم اليوم, هي كلها افرازات طبيعية لنظمنا التعليمية.