ليس سهلا أن تكون هناك سياسة خارجية لأي ثورة خاصة لو أنها لا تزال مستمرة وأحداثها تتفاعل بين قطبين من التوجهات: قطب يحاول جذبها نحو مسار الشرعية. حيث توجد خطوات محسوبة علي مدي زمني محدد للتحول من نظام مركزي يدور حول سلطات رئيس الجمهورية إلي نظام ديمقراطي كامل الأركان يقوم علي تداول السلطة والحفاظ علي الحريات العامة وحقوق الإنسان. وما جري في هذا القطب بات مجسدا في الإجراءات التي اتخذها المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي يتحرك علي أساس الدستور المصري الحالي مع اتخاذ خطوات لتعديله وتنقيته بحيث يقود في النهاية إلي سلطة مدنية يصبح من واجباتها استكمال الخطوات الدستورية إما بمزيد من التنقية للدستور القائم وهو ما لم أحبذه أبدا أو وضع دستور جديد يليق بمصر والعصر معا, وهو ما حبذته دائما. ولم يكن هذا القطب يعمل فقط في إطار المجلس الأعلي للقوات المسلحة وجهودها من أجل تطبيع الحياة السياسية في مصر; بل إن قوي سياسية أخري سارت في نفس المسار. وبالتأكيد فإن دخول عدد من وزراء أحزاب المعارضة إلي الحكومة بعد تعديلها, سوف يضع أولي البصمات علي الكيفية التي تدير بها أحزاب المعارضة شئون الحكم والقضايا العامة. وكنت منذ عامين قد قدمت برنامجا تليفزيونيا بعنوان مع المعارضة حرصت أن يكون مخصصا للمعارضين لنظام الحكم فقط لعرض مواقفهم, وهالني آنذاك الفجوة الكبيرة بين الواقع السياسي والاقتصادي وتصورات هذه النخبة التي أتت مما يشاع ويتداول في أروقة المعارضة والاحتجاج. الآن تغيرت الحال, وأصبح علي الأستاذ منير فخري عبد النور أن يثبت تفوق حزب الوفد وخياله السياسي والاقتصادي بتجاوز رقم الأربعة عشر مليون سائح التي وصل إليها العهد القديم ويصل بنا إلي عشرين مليون سائح التي كنا نحلم بها في ذلك العصر. أما الأستاذ الدكتور وعالم الاقتصاد الجليل جودة عبد الخالق فقد بات عليه وقد أمسك ملف الفقراء أن يستطيع أن يقدم لهم أكثر من166 مليار جنيه من المعونات والدعم كان ينفقها النظام القديم ويجعل استخداماتها أكثر كفاءة وفعالية وهو الذي قضي عمره عالما اقتصاديا جليلا معارضا لنظام يجعل الفقراء أكثر فقرا والأغنياء أكثر غني. وببساطة سوف يكون في يد ممثل حزب التجمع الديمقراطي الوحدوي الذي يعض علي العدالة الاجتماعية بالنواجذ. ولكن أهم ما يجري في هذا القطب فهو التطبيع القانوني والشرعي للتيار الإسلامي في مصر وهو ما جري عندما حصل حزب الوسط أخيرا علي الشرعية وبات جزءا من النظام الحزبي في مصر. ولكن القفزة الكبري جاءت عندما استجابت جماعة الإخوان المسلمين لمناداة الكثيرين, وكنت منهم, من أجل تشكيل حزب سياسي مدني يمكن محاسبته والتعامل معه قبولا ورفضا علي أسس سياسية وقانونية. ورغم أن الحزب الحرية والعدالة لم يصدر برنامجه بعد فإن اختيار الدكتور سعد الكتاتني لكي يكون مسئولا قانونيا عن تأسيس الحزب, وما أعلنه عن إعجاب بالتجربة التركية, يبدو مبشرا ومثيرا لآمال عديدة أن تتمكن مصر وقواها المدنية المختلفة من تجاوز توتر بين القوي والحركات السياسية كان واحدا من المعوقات التي وقفت في وجه التطور الديمقراطي في البلاد. القطب الثاني ينتمي إلي نظرية الثورة المستمرة لو أخذنا في خيالنا المشابهة مع ما جري في الثورة البلشفية بعد سقوط الثورة الديمقراطية تحت أقدامها حينما انقسمت ما بين مؤيدي لينين الذين رأوا إقامة الاشتراكية في بلد واحد يكون منارة العالم ومدينته الفاضلة; ومؤيدي تروتسكي الذين أرادوها ثورة مستمرة حتي يقام العدل في العالم أجمع. في مصر ظهرت النظرية أن الثورة أطاحت برأس النظام ولكن النظام نفسه لم يسقط وبقي متمرسا في مواقع كثيرة; ولذا فإن المطلوب هو استمرار الثورة في الشارع من خلال مظاهرات مليونية ترسل رسائل أسبوعية أو دورية لكل من يهمه الأمر بالمطالب التي تؤدي إلي اقتلاع النظام القديم من جذوره. ولكن أنصار الثورة المستمرة لا يكتفون بالمظاهرات فقط وإنما يضيفون لها' فزاعة' جديدة قوامها تحالف الحزب الوطني الديمقراطي مع مباحث أمن الدولة لكي تحل مكان ما كان مثارا عن فزاعة الإخوان المسلمين من قبل. وذلك رغم ما كان مثارا أن الحزب الوطني لم يكن أكثر من حزب ورقي هجره أصحابه ويحاول البعض منهم تجميع فلوله; ورغم ما يتعرض له جهاز أمن الدولة من ضغوط وتحقيقات قانونية. ولكن الحقيقة والقانون ليسا هما القضية, وإنما الأمر كله يقع حيث الشرعية الثورية التي تقضي بالحزم والعزم علي كل أشكال الفساد, وتقلع نظاما فاسدا من جذوره حتي تتغير الدولة المصرية كلها لكي تصير منارة للثوار والثورة في المنطقة, ومن يعلم, في العالم أيضا. قطبا الثورة المصرية واقعان في الساحة السياسية, وكل منهما يطرح نفسه علي الجماهير بأشكال مختلفة; والمهم هنا والمعني أن ذلك كله لا يجري في ظل فراغ إقليمي, فالعالم لا يتوقف عن الحركة, والكرة الأرضية لا تكف عن الدوران لأن بلدا قام برفض نظام صار قديما ويسعي لإقامة نظام جديد. هذا البلد في كل الأحوال يبقي دائما أسير جغرافيته التي تعطيه مصادر التهديد لأمنه القومي في لحظات الضعف, ومصادر الامتداد لطموحاته التاريخية ساعة القوة والقدرة. ولذلك فإنه لا مفر من أن يكون لمصر سياسة خارجية في كل لحظة من لحظات تاريخها حتي لو كانت تمر بفترة انتقالية أو كانت تنقسم قواها الثورية ما بين طريق الشرعية وسبيل الثورة الدائمة. المعادلة صعبة بالتأكيد, ولكنه لا يمكن الفرار منها أو الابتعاد عنها خاصة لو غلبت عناصر التهديد للأمن القومي علي الفرص القائمة التي وصدق أو لا تصدق أنها موجودة أيضا. ومنذ ثورة25 يناير2011 برز علي الساحة الخارجية عدد من التطورات المتلاحقة التي تضع ضغوطا علي الأمن القومي والمصالح العليا لمصر, لا تقل في أهميتها وخطورتها عما يجري من أحداث وتطورات داخل مصر. أول هذه التطورات يتعلق بالوضع في الجار الجنوبي أي السودان. فقد تم إعلان نتيجة الاستفتاء علي انفصال الجنوب في7 فبراير.2011 ومن بين3 ملايين و837 ألفا و406 أصوات صالحة, بلغت نسبة الأصوات المؤيدة للانفصال98.83%, فيما صوت1.17% لصالح الوحدة بين الشمال والجنوب, أي نحو44 ألفا و888 صوتا. وقد بدأت حكومة جنوب السودان في اتخاذ عدد من الإجراءات التمهيدية لوضع أسس الدولة الجديدة, حيث تم اختيار يوم9 يوليو ليكون يوم الاستقلال, وهو الموعد المحدد لانتهاء الفترة الانتقالية التي حددتها اتفاقية السلام الموقعة بين الشمال والجنوب في عام.2005 كما تم تحديد اسم الدولة الجديدة وهو السودان الجنوبي وليس جنوب السودان لأن الأخير يشير إلي موقع جغرافي وليس إلي دولة, واعتبرت حكومة الجنوب أن الدولة الجديدة تشبه كوريا الجنوبية في تسميتها. لكن انفصال الجنوب ليس نهاية المطاف, بل إنه يمكن أن يكون بداية لموجة من الأزمات والمشكلات التي تمس المصالح المصرية في الصميم. إذ إن انفصال الجنوب يهدد بانتقال العدوي إلي مناطق أخري في الشمال مثل دارفور التي تشهد مواجهات بين القوات الحكومية والحركات المسلحة المعارضة. إن انفصال الجنوب يمكن أن ينتج عنه تداعيات تمس أمن مصر المائي, لاسيما في ظل احتمال التقارب بين الدولة الجديدة ودول المنبع التي وقعت علي اتفاق عنتيبي لتقاسم المياه الذي رفضته كل من مصر والسودان. لكن الأهم من ذلك هو ظهور تلميحات من جانب السودان تحاول تعويض خسارة الجنوب علي حساب الأراضي المصرية من خلال فتح قضية حلايب مع الحكومة المصرية الجديدة. وقد أشارت بعض التقارير الإعلامية السودانية إلي أن البرلمان السوداني سوف يطلب مثول وزير الخارجية علي كرتي أمامه لمناقشة هذا الملف, في حين قال الناطق باسم الخارجية خالد موسي أن حلايب ظلت إحدي أجندات الحوار مع الحكومات المصرية المتعاقبة لفترات طويلة, وأن السودان يحتفظ بحقه التاريخي والقانوني في حلايب. فضلا عن ذلك وللتخلص الكامل من مسئولية ضياع الجنوب, فإن ثمة مؤشرات عديدة ترجح احتمال أن يتجه الشمال نحو تبني نظام ديني, حيث أعلن الرئيس السوداني عمر حسن البشير, في5 فبراير2011, أن الجمهورية الثانية في شمال السودان التي ستقام بعد انفصال الجنوب ستحكم بالشريعة الإسلامية, وأضاف أن انفصال الجنوب حسم هوية شمال السودان, وقال في هذا السياق: دعوتنا للآخرين أن يتحدوا معنا, وسنفتح لهم الباب إلا من أبي. هنا فإننا لا نتحدث عن تيار ديني معتدل يمسك بزمام السلطة, وإنما سلطة لها توجهاتها الدينية في التملص من مسئوليتها التاريخية عن ضياع الجنوب بخلق حالة من الهستيرية الدينية تلوح بها إزاء كل من يعارضها. كذلك فإن الانفصال لم يحل دون تصاعد حدة الخلافات بين الشمال والجنوب, حيث لوحت حكومة الجنوب بأنه في حالة عدم الوصول إلي اتفاق مع الشمال حول استخدام موانئه لتصدير النفط الجنوبي, فإنها سوف تتجه إلي استخدام موانئ دول مجاورة مثل كينيا وجيبوتي لهذا الهدف. وتبادل الطرفان اتهامات مختلفة, حيث وجهت الحركة الشعبية انتقادات حادة إلي المؤتمر الوطني الحاكم بالخرطوم بسبب ما وصفته بالبطء في تنفيذ بعض البنود الرئيسية التي تضمنتها اتفاقية السلام خصوصا تلك المتعلقة بمنطقة أبيي وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب. ولم تكتف حكومة جنوب السودان بذلك بل اتهمت الشمال بتقديم دعم إلي جورج أطور المنشق عن الحركة الشعبية بهدف القيام بشن هجمات مسلحة في الجنوب, وهو ما رد عليه الشمال باتهام الجنوب بدعم متمردي دارفور في مواجهاتهم مع القوات الحكومية. القضية الثانية خاصة بالوضع في الشمال الشرقي لمصر, إذ برزت علي السطح بعض الظواهر التي توحي بوجود حالة من الفوضي والانهيار الأمني, الأمر الذي يمكن أن ينتج عنه تداعيات سلبية عديدة علي مصالح الدولة وأمنها القومي. أول مؤشرات هذه الظواهر, تعرض معسكر لقوات الأمن المركزي ببلدة رفح الحدودية المصرية لهجوم بالأسلحة الرشاشة الثقيلة وقذائف آر بي جي, ووقوع عمليات سلب ونهب في العديد من المناطق. وثانيها, تعرض محطة تغذية خط الغاز المتجه إلي الأردن والمنطقة الصناعية بوسط سيناء للتفجير وذلك باستخدام عبوات ناسفة جري تفجيرها بالتحكم عن بعد في5 فبراير2011 وثالثها, المحاولات التي كانت تستهدف ارتكاب أعمال تخريبية في مصر, حيث نجحت بعض اللجان الشعبية التي شكلت لمواجهة حالة الانفلات الأمني في ضبط5 قنابل يدوية و3 أسلحة آلية مكتوب عليها كتائب القسام حماس داخل سيارة مرسيدس كان من بين مستقليها فلسطينيان تم تسليمهما إلي القوات المسلحة التي أحالتهما إلي النيابة. وبينما يجري كل ذلك فإن هناك اتجاها تصعيديا بين غزة تحت قيادة حماس مع إسرائيل حينما تم توجيه صواريخ جراد لقصف مدينة بئر سبع يفتح الباب لمواجهات جديدة علي الجبهة الشمالية الشرقية لمصر سوف يكون لها نتائجها وتوابعها. أما القضية الثالثة, فتتصل بالوضع المشتعل في الجار الغربي أي ليبيا, حيث تصاعدت حدة المواجهات بين السلطات الليبية والمحتجين الذين دعوا من خلال بعض المواقع الاجتماعية مثل فيس بوك إلي التظاهر يوم17 فبراير الذي يوافق ذكري وقوع اشتباكات في مدينة بنغازي يوم17 فبراير حيث قامت قوات الأمن بقتل بعض المحتجين الذين كانوا يحاولون اقتحام القنصلية الإيطالية بالمدينة. وقد أسفرت هذه المواجهات عن وقوع عدد كبير من القتلي والجرحي واعتقال عدد من النشطين السياسيين, إلي جانب قطع خدمات شبكة الإنترنت وتدشين عمليات تشويش إلكترونية لمنع استقبال بث القنوات الفضائية. وقد أدي تصاعد المواجهات إلي استقالة عدد من أعضاء مجلس القيادة التاريخية للثورة الليبية لرفضهم أسلوب السلطات في التعامل مع المحتجين. كما قدم المستشار مصطفي عبد الجليل وزير العدل الليبي استقالته من منصبه بسبب إعطاء تعليمات لضرب المتظاهرين بالرصاص الحي. واستقال أيضا عبد المنعم الهوني مندوب ليبيا الدائم لدي الجامعة العربية من جميع مناصبه وانضم للثورة الشعبية. وأصدرت جامعة الدول العربية قرارا لافتا بمنع مشاركة وفود ليبية وذلك خلال الاجتماع الطارئ الذي عقد بالقاهرة في22 فبراير2011 والأخطر من ذلك, هو حالة الغموض التي تنتاب المشهد السياسي الليبي, والتي تجعل المواجهات الحالية التي تشهدها ليبيا مفتوحة علي أكثر من سيناريو, من بينها السيناريو التوافقي الذي يتم من خلاله التوافق علي تأسيس نظام سياسي جديد يستطيع القيام بحزمة من الإصلاحات التي يمكن أن تقلص حدة الغضب والاستياء العارم الذي ينتاب الليبيين في الوقت الحالي, أو سيناريو يقوم علي تقسيم ليبيا إلي عدة مناطق تخضع لسيطرة القبائل المختلفة, وهو ما يمكن أن ينتج عنه تداعيات أمنية وإستراتيجية خطيرة. وقد ظهرت مؤشرات توحي بخروج بعض المناطق الليبية عن نطاق سيطرة النظام الحالي, مثل شرق ليبيا الغني بالنفط. هكذا فإن الجوار الجغرافي لمصر الشمال الشرقي والجنوب والغرب يزخر بحالة من القلق الاستراتيجي الذي يؤثر بشكل مباشر علي الأمن القومي المصري. ولحسن الحظ أن القوات المسلحة المصرية قد أبقت علي قدراتها الدفاعية الاستراتيجية علي حالتها واعتمدت في التعامل مع الأوضاع الداخلية علي احتياطياتها. ولكن بعد ذلك فإن هناك أمورا كثيرة لا تبعث علي الاطمئنان حيث أعادت قوي سياسية عديدة قضية السلام مع إسرائيل إلي قائمة الأعمال الوطنية; كما أنه لم تتبلور رؤية إستراتيجية تتعلق بالسودان حيث تتشابك قضايا الأرض والأيديولوجية والأمن المائي مع بعضها. ولا يوجد حتي الآن تصور كامل للتعامل مع الوضع الليبي وتداعياته الدامية التي يعيش وسطها مليون ونصف المليون مصري. وفي الحقيقة فإن بعض القوي الثورية المصرية تجد نفسها في مأزق التعامل مع النظام الليبي الذي حمل أحلامها القومية أحيانا إلي ذري عالية; والحالة الواقعة الآن لنظام شاخ علي مقاعده وراح يحاول قتل شعبه بالطائرات والدبابات والقوات المسلحة. ماذا نفعل إذن إزاء ذلك كله ؟ سؤال ينبغي ألا يكون في بلد ارتضي الديمقراطية نظاما بالشرعية أو بالثورة إلا مطروحا علي كل القوي السياسية تجتهد فيه وفقا للمصالح العليا للوطن, وساعتها سوف يكون هناك اجتهادنا حاضرا بالحجة والبرهان. [email protected]' المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد