لم يسعدني الحظ بسبب عملي في أنقرة بحضور تكريم المجتمع المصري ممثلا في أكثر من ثلاثمائة من عمالقة الدبلوماسيين والمفكرين والفنانين ورجال الدولة والأعمال لأستاذي السفير القدير عبدالرءوف الريدي. ولقد جاء هذا التكريم بمناسبة صدور كتابه عن رحلة عمره المهنية والشخصية التي بدأت منذ ستة وسبعين عاما في عزبة البرج بمحافظة دمياط وشهدت وقائعها القاهرة ونيويورك واسلام أباد وواشنطن حيث توج تاريخه الدبلوماسي بالعمل سفيرا لبلادنا هناك في فترة من أصعب الفترات(4891 2991). وقد عاد السفير الريدي الي القاهرة بعد تقاعده من العمل الدبلوماسي الرسمي لكي يسهم في إيجاد وقيادة مؤسستين حيويتين لتوظيف المجتمع المدني المصري بكل طاقاته وخبراته في دعم تعليم وتثقيف الأطفال والشباب من خلال مكتبات مبارك, وتقديم المساندة والنصيحة لمؤسسة السياسة الخارجية المصرية وتثقيف النخبة حولها من خلال المجلس المصري للشئون الخارجية. وأؤمن بأن أي تقييم منصف لانجازات هذا الرجل خلال حياته العامة طوال ستة عقود لابد وأن تضعه في مصاف العمالقة ذوي الإنجازات فائقة التميز التي تؤهله لتقلد أعلي درجات وأوسمة التقدير التي تقدمها الدولة للقليلين من أمثاله, وتسمية إحدي مؤسساتنا أو منشآتنا العريقة باسمه, وأن يتم ذلك التكريم الآن في حياته وفي قمة عطائه لبلاده. وتعود ذكرياتي مع السفير الريدي الي ماقبل ثلاثين عاما حين بدأت العمل معه وهو مدير إدارة الهيئات الدولية بوزارة الخارجية وكنت وقتها حديث العهد بالعمل الدبلوماسي. ولعل ذكرياتي تلك لن تضيف الكثير من الوقائع لما تضمنه كتاب السفير الريدي الشيق عن رحلة حياته وشهادات العديدين ممن كتبوا عنه والتي تحوي جميعها تعريفا جيدا بإسهامات هذا الرجل في المجال الدبلوماسي والعمل العام سواء في مجال مشاركته في جهود استعادة الأرض المصرية وتخليصها من الإحتلال الإسرائيلي, ومفاوضات السلام والعمل الدبلوماسي متعدد الأطراف وإدارة العلاقات المصرية الأمريكية في فترة من أصعب فتراتها وتحويلها إلي نموذج مثمر للتعاون بين قوة عظمي وأخري إقليمية. ولكني أود أن أعرض هنا لبعض تجاربي الشخصية التي تعكس الملامح الانسانية التي يثري بها السفير الريدي العمل الدبلوماسي المصري حتي بعد تقاعده: ففي عام3891 وبمجرد تولي السفير الريدي إدارة المنظمات الدولية وكنت أحد أصغر دبلوماسييها وقدمني له نائبه السفير المخضرم شكري فؤاد, طلب مني الريدي دراسة أحد الملفات بسرعة تمهيدا لحضوري معه مقابلة مهمة مع سفير دولة كبري تطلب تأييد مصر لموقفها إزاء احدي القضايا الشائكة. وخلال المقابلة التي حضرتها لكي اسجل محضر اجتماعها أبدي السفير الريدي للضيف رغبتنا في دراسة طلبه فاندفعت موضحا نقاط اعتراضنا علي هذا الطلب ومستعرضا الاسباب المنطقية لذلك والتي تتوافق مع مصالحنا, فابتسم السفير المصري المحنك وهمس لضيفهوهاأنت قد استمعت الي الرأي المعارض لمطلبكم وحججه من داخل مؤسسة الخارجية وسوف نبحث الأمر من وجوهه المختلفة ونفيدكم بقرارنا. وبعد المقابلة تلقيت أول دروسي الدبلوماسية العملية في مراحل صنع القرار الدبلوماسي وطرق ودرجات ابلاغه للأطراف المعنية, ولكن الريدي الوالد قبل السفير أنهي نصيحته المطولة لي بأنه لايود أن تكون هذه التجربة رادعا لي عن مزيد من دراسة موضوعاتي والتعبير عن رأيي داخل مؤسستي ومع المسئولين الأجانب بالطريقة التي سوف تصقلها الخبرة. وفي العام التالي انتقل السفير الريدي لكي يكون السفير في واشنطن ووعدني قبل سفره بترشيحي للوزارة للعمل معه هناك, وهو ماكان يفعله بانتظام كل عام فيتخير شابا يتوسم فيه خيرا لكي يطلب من الوزارة نقله للعمل في واشنطن دون أن تربطه به أي صلة شخصية وأحيانا لمجرد أنه قرأ أحد التقارير التي كتبها مثل هذا الشاب الواعد دون حتي أن يلقاه. وهكذا وجدت نفسي في واشنطن ضمن مجموعة من الشباب الطموح الذي لايعرف الكلل في العمل ولاحدود لرغبتهم في التعلم والارتقاء ومنهم محمد توفيق(سفيرنا السابق في استراليا) وناصر كامل( فرنسا) وحاتم سيف النصر( لندن) وعلاء الحديدي(سلفي في أنقرة وحاليا في موسكو) ومحمد إدريس نائب مساعد الوزير. وكان زملاؤنا الأكبر سنا والأقل حماسا يطلقون علينا شلة أولاد الريدي الذين يقش بهم( من وحي ولد الكوتشينة). ولعل اهتمام الريدي بمراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني وتأثيرها في السياسة الخارجية قد بدأ في واشنطن. فلطالما حثنا علي الاتصال بتلك المؤسسات وشرح لنا أهميتها في التأثير علي صناع القرار في الولاياتالمتحدة وفي تخريج من بين باحثيها مرشحين لتولي أعلي المناصب السياسية أو العودة لتوليها مرة أخري من خلال مايسمي بسياسة الأبواب الدوارة. أعتقد أن لدي كل من زملائي الذين خبروا السفير الريدي مئات الروايات المشابهة التي لايتسع المجال لها هنا, ولكنني رويت بعضها بغرض المشاركة في الاحتفال بتكريم السفير الريدي بمناسبة صدور كتابه ولكي تري الأجيال الجديدة من الدبلوماسيين عن قرب أحد منارات المدرسة الدبلوماسية المصرية الذي مازلنا نهتدي بحكمته ونستدفيء بمحبته.