تعيش بيننا شخصيات رائعة.. هي بحق شموس تضيء الحياة المصرية.. ومن هذه الشخصيات التي تأثرت بها في حياتي السفير الصديق عبد الرءوف الريدي, أحد أعلام الدبلوماسية المصرية وقامة طويلة. بين رجالات السلك الدبلوماسي.. وقبل ذلك صاحب الاخلاق الرفيعة الذي لا يختلف عليه أحد في ذلك. وعبد الرءوف الريدي هو نموذج للشخصية المصرية الأصيلة التي تبلورت ملامحها منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ويكفي جلسة واحدة مع الرجل تستمع اليه لتعرف انه يذوب حبا وعشاق لتراب هذا البلد, حتي يخيل اليك انه يعرف ما لايعرفه أحد عن مصر وقيمة مصر, عندما يتحدث عنها يصفها كأنها قطعة من الجنة, وأرضا عظمها الفراعنة بما أبدعوه من حضارة, وحصنا للمسيحية آوت اليه العائلة المقدسة هروبا من اضطهاد الرومان, وفي العصر الإسلامي كانت مصر ومازالت هي بوابة الدفاع عن العالم الإسلامي ضد غارات المغول والحملات الصليبية. ولقد قابلت عبد الرءوف الريدي وعرفته عن قرب وصار مثلا لي أهتدي بنصيحته ورأيه في كل أمور حياتي لما لمسته فيها من رجاحة العقل وبعد الرؤية, وقد نفعتني نصائحه في حياتي سواء العملية أو الشخصية.. بدأت معرفتي به حينما كنت طالبا ادرس الدكتوراه بجامعة بنسلفانيا بالولاياتالمتحدةالأمريكية, وقد جاء عبد الرءوف الريدي سفيرا لمصر في واشنطن خلفا للسفير المبدع اشرف غربال, ولم يتصور أحد أن يكون سفيرا آخر يستطيع ان يملأ فراغ أشرف غربال الذي أدار الدبلوماسية المصرية في أمريكا لسنوات طويلة بكل خبرة واقتدار. وعندما جاء السفير عبد الرءوف الريدي وجدناه يطلق العنان لدبلوماسية من نوع جديد لم نعهدها من قبل, وهي دبلوماسية الهدوء والمصارحة, وصعب جدا ان تكون المصارحة من صفات الدبلوماسي, لأن هناك ظروفا أقوي تحتم علي الدبلوماسي أن يتحدث كثيرا دون ان يقول شيئا, وأن يدلي برأيه ثم تكتشف انه لم يعط رأيا, وإذا حدثته عن أزمة سياسية علي وشك الوقوع حدثك عن الجو علي كوكب المريخ! وأنا شخصيا أعتقد أن عبد الرءوف الريدي هو صاحب مدرسة متميزة في الدبلوماسية أو ما يمكن ان نسميه صاحب مدرسة الدبلوماسية الشعبية أي أنه أيقن ان القرار ليس فقط بيد رئيس الولاياتالمتحدة ومعاونيه في واشنطن, وإنما في يد المواطن العادي كذلك, ولذلك ذهب الي كل الولاياتالأمريكية, وقابل السياسيين من مختلف التيارات وأعضاء الكونجرس, وحكام الولايات وعمد المدن, خاصة في تلك الولايات المؤثرة في مجري السياسة الأمريكية, وقد أمضي عبد الرءوف الريدي وقتا ليس بقصير ليدرس ويفهم طبيعة الشعب الأمريكي, ولذلك نجح في دوره كسفير لمصر في وقت صعب جدا.. معتمدا علي ذكائه الشخصي والأدوات الثقافية المصرية لكي يغزو قلوب الشعب الأمريكي, ومن حظه ذهاب معرض الملك رمسيس الثاني الذي زار إحدي عشرة مدينة أمريكية, ومن خلاله استطاع سفيرنا الريدي ان يقدم نفسه الي الشعب الأمريكي كأحد أحفاد هذه الحضارة العظيمة وحصل علي العديد من المكاسب لمصر. أذكر أنني عندما حدثته تليفونيا لأول مرة في السفارة المصرية بواشنطن عرفت انه من قرية عزبة البرج القريبة من قريتي العبيدية بمحافظة دمياط, ووجدته يقول لي بسعادة واضحة: أنا مبسوط جدا ان واحد بلدياتي هنا في أمريكا يدرس الدكتوراه في الاثار المصرية القديمة.. بعدها صرنا أصدقاء. لقد خطط عبد الرءوف الريدي لاستغلال معرض ملك الفراعنة رمسيس الثاني لكي يقوي أواصر الصداقة بين الشعب الأمريكي ومصر, ويجعل الأمريكان يقعون في حب وهوس الفراعنة,.. واختار مجموعة من الدبلوماسيين الشبان علي مستوي راق من الفكر والعلم واجادة اللغة الانجليزية, وبدأ بهم حملة منظمة للتعريف بمصر وشعبها وحضارتها, وقد صار معظمهم الآن سفراء متميزين أذكر منهم السفير ناصر كامل, سفير مصر في فرنسا, والسفير محمد توفيق الذي كان سفيرا لمصر في استراليا, وكلاهما يتبع نفس مدرسة الريدي ويعتمدان بشكل رئيسي علي المقومات الثقافية المصرية في المجتمعات التي يعملون بها ويؤمنان بأن تنظيم المعارض الأثرية هو أفضل دعاية لمصر في تلك البلدان, وقريبا تستضيف استراليا معرضا للملك توت عنخ آمون يعرض هناك لمدة عام. لقد كانت بالنسبة لي فرصة عظيمة للتعرف عن قرب علي السفير عبد الرءوف الريدي اثناء جولات معرض الملك رمسيس الثاني وسافرنا معا ولأول مرة الي مدينة دنفر بولاية كلورادو, حيث كان من المقرر عرض آثار الملك رمسيس الثاني في متحف التاريخ الطبيعي بالولاية.. وقد زرنا المدينة ثلاث مرات قبل افتتاح المعرض, المرة الأولي لحضور مؤتمر صحفي كبير للإعلان عن قدوم الملك العظيم رمسيس الثاني الي المدينة, وكنت أتحدث عن الآثار ويتحدث السفير الريدي عن السياسة, وبجواره عضوا مجلس الشيوخ والكونجرس وعمدة المدينة, وخلال هذه الرحلة قام بعمل العديد من اللقاءات الصحفية والتليفزيونية, وذهبنا معا الي المعبد اليهودي في المدينة وألقي خطابا يؤكد ما يقوله الرئيس حسني مبارك بأن أمن اسرائيل لن يتحقق بدون وجود سلام حقيقي مع الشعب الفلسطيني.. سلام لا ينتقص من حقوقهم شيئا. وسافرنا معا الي مدينة دالاس والي جاكسون فيل بولاية فلوريدا الساحرة, وكذلك الي مدينة ممفيس بولاية تينيسي, وقبل افتتاح المعرض توجه الي أركانساس لكي يقابل بيل كلينتون عندما كان حاكما للمدينة في ذلك الوقت.. وجاء أيضا إلي مدينة فيلادلفيا, حيث أدرس بجامعة بنسلفانيا, وحضر افتتاح معرض بمتحف الجامعة, وقابل المصريين المهاجرين, ولا أنسي أنني حضرت حفلا أقيم علي شرفه وفاجأني أحد السياسيين الأمريكان بمدينة فيلالفيا بقوله: هذا الرجل( يقصد عبد الرءوف الريدي) سفير لم نعهد مثله من قبل لا يناور ولا يخادع, بل يتحدث في خطابه كما يتحدث في مقابلاته الشخصية والصحفية, وهذا ما نطلق عليه دبلوماسية الوضوح. وخلال وجود السفير الريدي في واشنطن استطاع بمساندة القيادة السياسية في مصر وبحكمة الرئيس حسني مبارك أن يقوم بجدولة الديون المصرية.. وقد كانت مصر في هذا الوقت تعاني من وضع اقتصادي صعب جدا, وعجز رهيب في الميزانية وكان الرئيس مبارك قد كلف الوزارة بعمل إصلاح اقتصادي والاهتمام أو إن شأنا قلنا إعادة بناء البنية التحتية لمصر كلها, وكانت الديون علي مصر تشكل عائقا أمام خطط الإصلاح خاصة انه كان يتطلب علي مصر ان تدفع ما يقرب من200 مليون دولار شهريا لكيلا تزيد فوائد الدين, واستطاع الرئيس مبارك بحنكته أن يدير معركة الديون ونجح السفير الريدي في المهمة الموكلة اليه والحصول علي موافقة الحكومة الأمريكية بإعفاء مصر من الديون تماما وتستطيع الحكومة تنفيذ خطة الإصلاح دون قلق! أما المناصب التي تولاها عبد الرءوف الريدي قبل ان يصبح سفيرا بواشنطن, فهي رئيس للبعثة المصرية في باكستان ثم جنيف, وعمل في أروقة الأممالمتحدة في بداية حياته الدبلوماسية وبذلك يعتبر من القلائل الذين يجيدون بكفاءة العمل الدبلوماسي متعدد الأطراف. وبعد ان ترك السلك الدبلوماسي عاد ليعيش بمصر, ويخدم في مجالات أخري فرأس مكتبات مبارك محاولا انشاء فروع في كل مكان بمصر ويجعل رسالة المكتبة تعليمية وثقافية ويدعو الشخصيات الثقافية والسياسية المصرية لمقابلة الأجيال الصاعدة والحديث معهم عن خبراتهم وتجاربهم الناجحة في الحياة لكي يكونوا قدوة لشباب مصر. ويرجع له الفضل في انشاء المجلس المصري للشئون الخارجية مع السفير محمد شاكر, وقد أصبح لهذا المجلس تأثير قوي في مصر والمنطقة العربية ودوليا, وأصبح يستضيف بالقاهرة رؤساء الجمهوريات والوزراء والشخصيات السياسية المهمة. لقد عرفت السفير عبد الرءوف الريدي عن قرب ووجدت فيه انسانا يؤمن بما يقول ورغم أنني أعرفه منذ ما يقرب من ثلاثة عقود, فإنني وإلي الان لم اكتشف به عيبا واحدا يمكن لأحد ان ينتقده من خلاله, وهو نقطة مضيئة في حياتنا أردت أن أشرك معي قرائي للتعرف به بين الأجيال الجديدة, وقد كنت حقا سعيدا وأنا أشترك مع صديقي الدكتور مصطفي الفقي في الحديث عن كتاب السفير عبد الرءوف الريدي الذي صدر أخيرا ويحكي فيه عن حياته وتجاربه الشخصية, وهو عمل يستحق من وزارة الثقافة ان تتبناه وتنشره علي نطاق واسع.. فليس هناك أفضل من اختيار الشخصيات وتجاربها لتكون نبراسا يضيء للشباب طريقهم في الحياة.