إن المتتبع للأحداث والتطورات في الشرق الأوسط يلاحظ تزايد الاهتمام في الآونة الأخيرة بمشكلة المياه والموارد المائية التي قد تواجهها هذه المنطقة من العالم خلال السنوات المقبلة, خاصة أن العالم العربي يعاني من نقص كبير في المياه, فضلا عن أن معظم مصادر مياهه تنبع من خارج حدوده. وقد أدت الزيادة السكانية الكبيرة في المنطقة إلي هبوط حصة الفرد من المياه إلي ما دون خط الفقر المائي, والذي يقدر بألف متر مكعب في السنة, وقد ينخفض هذا الرقم إلي006 م3/ سنة في عام0502, في حين يبلغ المعدل الطبيعي0071 م3/ سنة للفرد في العالم, وقد وصل نصيب الفرد من المياه في مصر حاليا إلي أقل من007 م3/ السنة. ولا يحتاج المرء لتحليلات معقدة لكي يدرك أن ملف المياه مرشح للكثير من التعقيدات التي قد تجعله في مستقبل غير بعيد يطغي علي ما عداه من قضايا, وزاد من التخوف المستقبلي ظاهرة التغيرات المناخية وتحذيرات خبراء البيئة التي تشير إلي أن العقود المقبلة ستشهد ارتفاعا في معدلات الحرارة, والتي ستؤدي إلي زيادة الاحتياجات المائية لمختلف القطاعات, وانخفاضا في كميات الأمطار في عدد من دول العالم من بينها بعض دول حوض النيل مما قد يؤدي إلي نقص الموارد المائية المتاحة. وأيقنت مصر ذلك منذ سنوات, خاصة مع العزم جديا, علي فتح طرق تنموية جديدة في كل المجالات, ورأت أن الموارد المائية تمثل العمود الفقري لأي تنمية مستدامة, فلم تعتمد فقط عما يأتي إليها من مياه النيل باعتبارها دولة المصب لنهر النيل واتجهت إلي استغلال المياه الجوفية العذبة والمسوس وإعادة استخدام المياه, واعتبرت ذلك أحد الخيارات الاستراتيجية لسد الفجوة المتزايدة بين الموارد المائية واحتياجات التنمية في القطاعات المختلفة, لكن تبقي الزيادة السكانية المستمرة, التحدي الأكبر أمام طموحات الحكومة المصرية في الحفاظ علي الأمن المائي. وبادرت وزارة الموارد المائية والري المصرية باعداد استراتيجية طويلة المدي لتنمية وإدارة الموارد المائية حتي عام0502, بهدف تحقيق الأمن المائي لمصر, حاضرا ومستقبلا, بوضع وتبني سياسات مائية تحقق التوازن بين الإمداد والطلب, وتساعد علي الإيفاء بالاحتياجات المائية, مع التركيز علي ضرورة التحول من ثقافة الوفرة المائية التي غلبت علي الفترة السابقة إلي ثقافة الندرة المائية والمتوقعة مستقبلا. ويلزم وضع هذا الهدف الاستراتيجي ضمن الأولويات السياسية لمصر. وما بين الوضع الحالي للموارد المائية في مصر, وبين حتمية التوسع في تنمية موارد مائية جديدة, من مصادر مختلفة, يتضح أن هناك سقفا لمدي إمكانية زيادة تلك الموارد, لكن تبقي القضية الأهم, هي وضع إطار عام للسياسات المستقبلية حتي عام0502, خاصة أن هناك بعض المحددات الرئيسية التي أشارت إليها الاستراتيجية في هذا الشأن, والتي تشتمل علي المحددات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والبيئية والمؤسسية والتشريعية, ويتضح كما هو واضح حاليا, أن المحددات السياسية, تعد الأهم مما سبق من محددات, لأنها تختص بالوضع السياسي في دول حوض النيل, وتسعي مصر حاليا لتقوية العلاقات مع هذه الدول, من خلال رؤية تعتمد علي معطيات عدة أهمها عدم الاضرار والاخطار المسبق والشفافية في تبادل المعلومات. واستراتيجية مصر لتنمية مواردها المائية حتي عام0502 ترتكز علي ستة محاور رئيسية: يهدف المحور الأول إلي تنمية الموارد المائية ويؤكد ضرورة العمل علي تنفيذ مشروعات لاستقطاب الفواقد في أعالي النيل, والتوسع في استغلال المياه الجوفية الضحلة في الوادي والدلتا, والتوسع في استغلال الخزانات الجوفية العميقة في الصحاري, والتوسع في حصاد مياه الأمطار والسيول, وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والصحي المعالجة, والتوسع في إنشاء محطات تحلية لمياه البحر والمياه الجوفية المسوس, حيث تعتبر أحد الخيارات الاستراتيجية لمواجهة ندرة المياه المتوقعة. أما المحور الثاني: فيهدف إلي ترشيد الاستخدامات المائية, ومن خلاله يتم التأكيد علي ضرورة التنسيق مع وزارة الزراعة للحد من زراعة المحاصيل الشرهة للمياه, وتطبيق نظم الري الحديثة في كل الأراضي الجديدة, والتوسع في مشاريع تطوير الري السطحي في أراضي الوادي والدلتا, وكذا التنسيق مع وزارة الاسكان لرفع كفاءة شبكات توزيع مياه الشرب وترشيد الاستخدامات السكانية من خلال تعميم أجهزة المحافظة علي المياه, كما يدعو هذا المحور إلي التنسيق مع وزارة التجارة والصناعة للتوسع في وحدات التبريد الصناعية التي تعتمد علي الهواء بدلا من المياه. ويهدف المحور الثالث إلي استكمال وإعادة تأهيل البنية القومية للمنظومة المائية من خلال إعداد وتنفيذ خطة متكاملة لكل محافظة لإعادة تأهيل شبكتي الري والصرف وإحلال وتجديد المنشآت والمرافق الحيوية الكبري المقامة علي النيل والترع الرئيسية والفروع, والتي تشمل محطات رفع طلمبات وقناطر حجز وسحارات, والتوسع في إنشاء شبكات الصرف المغطاة وإحلال وتجديد الشبكات القائمة. ويأتي المحور الرابع ليؤكد أهمية مجابهة تلوث الموارد المائية والحد منه من خلال مضاعفة الجهود في مجال التوعية المائية والتنسيق مع وزارة الزراعة ووزارة البيئة لترشيد استخدام الأسمدة والمبيدات, وتفعيل العقوبات علي المصانع التي تلوث المجاري المائية, والتوسع في مشروعات تغطية الترع والمصارف التي تتخلل الكتل السكانية بالقري والمدن, ووضع ضوابط اعادة استخدام مياه الصرف الصحي في الزراعة طبقا للكود المصري, والتنسيق مع الجهات المعنية لزيادة عدد محطات استقبال مخلفات العائمات السياحية مع الرقابة الجادة علي هذه العائمات, ودعم جهود التوسع في إنشاء مدافن صحية للمخلفات الصلبة والنفايات الطبية مما يضمن إجمالا تحقيق الاستفادة القصوي من الموارد المائية المتاحة دون التأثير علي المنظومة البيئية المرتبطة باستخدامات المياه. ولعل خطر التغيرات المناخية الذي يهدد غالبية الدول المطلة علي السواحل والبحار يفرض نفسه علي الاستراتيجية, ليحل المحور الخامس بالاستراتيجية هذه الاشكالية, حيث يتعرض إلي سياسات التكيف مع التغيرات المناخية, ويدعو إلي ضرورة متابعة البحوث العلمية الخاصة بتأثير التغيرات المناخية, ونشر الوعي بقضايا المناخ, وتنفيذ أعمال الحماية للمناطق الساحلية المعرضة لخطر الغمر المائي, والمحافظة علي نظم الحماية الطبيعية للمناطق الساحلية, وتشجيع اتجاهات وزارة الزراعة لاستنباط سلالات زراعية تتحمل الحرارة والملوحة والجفاف. ويركز المحور السادس علي ضرورة الوصول لإدارة متقدمة للموارد المائية, وإيجاد الإحساس لدي مستخدمي المياه بأهمية مشاركتهم في إدارة نظم الري والصرف, وذلك برفع كفاءة منظمات مستخدمي المياه وتحسين كفاءة العاملين في مجال تنمية وإدارة الموارد المائية وزيادة الوعي الجماهيري بقضايا المياه, وأيضا تفعيل دور القطاع الخاص لضخ الاستثمارات في قطاع المياه, وتقديم خدمات مائية متطورة, ويشتمل هذا المحور أيضا علي ضرورة تفعيل اللامركزية علي المستويات المختلفة ووجود هيكل مؤسسي مناسب وإطار قانوني قوي يضمن تنفيذ السياسات المائية المطلوبة للفترة المقبلة. ومن المعروف أن عملية استشراف المستقبل بصفة عامة, والتنبؤ بالوضع في مصر عام0502 بصفة خاصة, عملية صعبة وبها درجة من المخاطر المستقبلية, لذلك اتجهت الاستراتيجية لوضع ثلاثة سيناريوهات لوضع تصورات مختلفة للأوضاع والمتغيرات المستقبلية, وتنوعت السيناريوهات بين حرج, ومتوازن, ومتفائل, وإن كان السيناريو المتوازن هو المرجح حدوثه مستقبلا بناء علي معدلات الزيادة السكانية والتطورات المتوقعة للتنمية, لكن يفترض لهذا السيناريو والسيناريو المتفائل زيادة إيراد النهر بتنفيذ بعض مشروعات استقطاب الفواقد في الأحباس العليا من النهر, وذلك بالتنسيق مع دول الحوض ولفائدة الجميع. وقد اعتمدت السيناريوهات الثلاثة علي دراسة وتحليل الوضع الراهن للمنظومة المائية والتوقعات الخاصة بمدي نجاح السياسات المختلفة, وكذا استراتيجيات الوزارات المعنية ذات الصلة, وقد اتضح من التحليل وجود عجز مائي تتم تغطيته عن طريق اعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والصحي والصناعي والمعالجة, وكذلك المياه الجوفية من الخزان الضحل بالوادي والدلتا, ويلاحظ أن تنفيذ السياسات المقترحة من شأنه أن يؤدي إلي تقليل الفواقد المائية من أكثر من62% حاليا إلي أقل من02% وبالتالي زيادة كفاءة استهلاك المياه الكلية من47% إلي ما يزيد علي08% في السيناريوهات الثلاثة. وقد تطرقت الاستراتيجية إلي تحليل للمخاطر التي يجب أخذها في الاعتبار عند التخطيط لعام0502, ويتمثل أول هذه المخاطر في تأثير التغيرات المناخية, وكذلك أي تأثيرات سلبية أخري متوقعة علي إيراد مصر من نهر النيل, بالإضافة إلي التلوث الذي يعد أحد أهم المخاطر التي تعوق إدارة الموارد المائية, وحسن استغلالها في الوقت الحالي, ومستقبلا, ونظرا للزيادة السكانية المطردة فإن مشكلات التلوث سوف تتفاقم ما لم يتم اتخاذ إجراءات صارمة لمنع تلوث المجاري المائية بمظاهره المختلفة. ومن ضمن المخاطر الأساسية عدم توافر الاستثمارات المطلوبة للتوسع في مشروعات إقامة محطات تحلية المياه, وتباطؤ معدلات إعادة تأهيل البنية القومية للمنظومة المائية, ويمثل التوسع العمراني علي حساب الأراضي الزراعية في الوادي والدلتا أحد المخاطر التي يخشي زيادتها في المستقبل, حيث تفقد حاليا مساحة تقدر بنحو02 إلي03 ألف فدان سنويا من أجود الأراضي الزراعية, وعليه فإن الأمر يتطلب التوسع في مساحات مناظرة في الأراضي الصحراوية لتعويض الفاقد من الأراضي الزراعية والنقص في الإنتاجية الزراعية في البلاد. بناء علي هذه المخاطر مجتمعة فإنه قد يحدث عجز في الموارد المائية التقليدية في السيناريو الحرج, والذي سوف يؤدي إلي عدم حدوث أي توسعات زراعية, وعدم القدرة علي توافر الاحتياجات المائية لاستكمال المشروعات التي يجري تنفيذها حاليا مثل مشروع تنمية جنوبالوادي بتوشكي ومشروع ترعة السلام, وبالنسبة للسيناريو المتفائل, فسوف تكفي الموارد المائية لنحو01 ملايين فدان أي يسمح باستكمال مشروعي توشكي وترعة السلام, وبعض التوسعات الأخري الجاري تنفيذها مثل ترعة الحمام. وأخيرا فإن تحقيق الأمن المائي للبلاد يتطلب أن نعمل جميعا علي تحقيق ملامح السيناريو المتفائل لحماية مصلحة مصر وحقوقها المائية ولترشيد الاستخدامات المائية, وتقليل الفواقد وتنمية موارد مائية جديدة ومجابهة ظاهرة التغيرات المناخية بالتعاون مع دول حوض النيل, وتدبير الاستثمارات اللازمة لمشاريع التحلية والتوسع في الاستغلال الآمن للمياه الجوفية ولاعادة استخدام المياه في الأغراض الملائمة.