للشرفة الأولي فوق الدور الأرضي سحر خاص, هي شرفة طنط وداد ليست ملتصقة بالارض فتحجب اشجار حديقة الدور الارضي الشارع عنها, ولا مرتفعة فيحول الارتفاع صيحات الاطفال وضحكاتهم ونداءات الباعة دون الوصول اليها, شرفة علي الجانب الايمن من البناية الصغيرة بقلب حي مصر الجديدة, تتميز بموقع مثالي تماما مثل صاحبتها. تظهر طنط وداد في مدخل البناية القامة وتر مشدودا علي وشك ان يعزف لحنا أو يطلق سهما, الوجه مصري له سمت ملامح صريحة.. عينان سوداوان واسعتان وابتسامة عريضة واثقة, وشعر مصفف الي الخلف ليجتمع في ضفيرة كثيفة تلتف حول الرأس.. إكليل أسود من الوقار والقدسية.. جمال أثير من طراز خاص, يذكر بأنديرا غاندي وفريدا كاهلو ووجوه الفيوم. محاربة اسطورية خرجت لتوها من ملحمة تاريخية سيفها في يمينها وقطرات العرق علي جبينها ورغم ذلك هي تمشي بيننا تعيش بيننا تضحك معنا تبكي لحالنا تتسامر تتسوق تجلس علي اريكتها بين أكوام الجرائد وخلفها ارفف مكتظة بكتب ما بين جديدة وقديمة تطهو لاسرتها تمشط شعر ابنتها تشرح لتلميذاتها مفهوم الاشتراكية, تناضل من أجل حق الاقتراع للمرأة المصرية, تساند المقاومة الشعبية في مدن القناة وجيش التحرير في الجزائر والمقاومة الفلسطينية, تحول أي مدرسة ومكان تعمل به الي مركز تعبئة شعبية, هادئة هدوء الرهبان وثائرة ثورة الفرسان. وفي بنايتنا الصغيرة في قلب مصر الجديدة هي واسطة العقد.. الام الروحية برغم اختلاف الاعمار, تفصل في المنازعات بين من هن أكبر سنا تحكم بين الساكنات تقرب بينهن, تحنو علي الصغار وترشدهم, وهي الصديقة والاخت الكبري لكل الامهات الشابات. في طفولتي ادخلت البهجة والسعادة علي قلبي عندما فاجأتني ذات ليلة واهدتني علبة شيكولاتة كبيرة وقميص نوم ورديا تزين صدره سطور من الدانتيلا البيضاء, نراها قلبا كبيرا وحضنا يتسع لنا جميعا, ترعانا مثلما ترعي أسرتها الصغيرة الرائعة د. سعد وريم وسهيل في مجتمعنا الصغير هي لدي الاطفال طنط وداد ولدي السيدات والرجال مدام وداد نحترمها ونحبها دون أن نعي ان هذا الكيان الانساني الرائع في بساطته الذي يتمحور حوله عالمنا هو المناضلة المصرية والناشطة السياسية والنقابية الرائدة وداد متري. هي طنط وداد, قبس من روح مصر, وجه من وجوه نهضة مصر, تمثل ماريان في فرنسا رمزا للدولة وللأمة, للحرية وللحكمة يختارها الفرنسيون كل عشرة أعوام وجه سيدة من الشخصيات العامة لتصبح وجه ماريان, ولو كان لمصر وجه أو رمز مثل ماريان الفرنسية لكانت طنط وداد أحد تلك الوجوه مع هدي شعراوي وفاطمة موسي ورضوي عاشور ومحسنة توفيق, بهية, أيقونة الوطن, المرأة الناهضة التي صاغها محمود مختار, تحفر ملامحها علي العملات المعدنيه ويرسم وجهها علي أي لوحة أو جدارية تمثل الوطن. ليس الوطن عند طنط وداد هو القاهرة أو وادي النيل أو شريط القناة, هو مساحة مترامية في المكان والزمان تتسع شرقا وغربا للأمس والغد, شهدت طنط وداد جميع أفراح الوطن ومآتمه, واست وآزرت وبيديها نثرت بتلات الزهور ووزعت الحلوي ثم رحلت عن عالمنا في الثامن عشر من يناير عام2007, وقبل ان تقترب ذكراها هذا العام وئد العام الجديد وسرق منا عيد الميلاد ونكئت جراح الوطن لتتداخل في ذاكراتنا مشاهد من دير ياسين, وتل الزعتر, وبحر البقر, ومصنع أبوزعبل, وجنين, وقانا, وملجأ العامرية, وكنيسة سيدة النجاة العراق. لماذا الإسكندرية؟ لماذا بالتحديد هذا المجتمع الكوزموبوليتاني الذي خلده لورنس دارل وأسامة أنور عكاشة وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم من المبدعين؟ وكيف يحدث هذا في الإسكندرية التي لم نسمع من قبل عن لفظ مجتمعها ورفضه للآخر بل تقبله واستيعابه لكل الاختلافات البشرية؟ تحررت الاسكندرية من التحيزات وحوت في رقعتها المنفسحة أجناسا وأعراقا وتداخلت فيها الاختلافات وتمازجت في توافقية وانسجام, لتبدو مأساة ليلة رأس السنة دخيلة وغير منطقية وكأن مرتكبها ينتمي لكوكب آخر خرق العهود واستباح الدماء المصرية الزكية. إثر هذا الخبر المأساوي تمثلت أمامي طنط وداد تخرج من بوابة بنايتنا الصغيرة.. تلمحني أقف في شرفة الدور الأراضي, تسألني في مودة منغمة, إززييك؟ثم تلوح لي باسمة وتركب السيارة الي جانب د. سعد في طريقها للعمل, أتصور أنها امرأة عاملة كمعظم سيدات البناية ولا أستوعب بعد أنها رحلة سعي يومية تقترب بها طنط وداد من مصر التي في خاطرها.. التي تحلم بها دوما, الوطن الذي قرأته في الانجيل وتعاليم السيد المسيح وحوارييه المخلصين.. وطن عزيز مستقل يفخر بأبنائه ويفخرون به. مريم فكري, شابة مصرية نضرة, تبدو كأنها من أجمل تلميذاتي بالجامعة, صورها الجميلة تبدو لي كأنها تحضر احدي محاضراتي مع زميلاتها, أكاد أسمع صوت طنط وداد توصيني بها خيرا وبالأخريات, بألانسمح لأحد مهما كان أن يسرق فرحة مصر, الشريط الأسود المائل علي الجانب العلوي الأيسر من صورة مريومة الجميلة يرمز لرحيلها اختطفها من سرق منا عيد الميلاد! أخجل من طنط وداد.. من شجاعتها وصمودها في المحن, ومن رجاحة عقلها وأمومتها الجياشة وإيمانها بوحدة الوطن والشعب تؤنبنا نظرات طنط وداد في صمت: كيف سرق منكم عيد الميلاد؟. لم يسرق الجرينش الأخضر عيد الميلاد هذا يحدث فقط في دنيا الحكايات الجرينش ليس سوي شخصية وهمية في قصة من تأليف د.سوس. أحب عيد الميلاد, أحبه في صورته الغربية والشرقية, أحب الخامس والعشرين من ديسمبر والسادس من يناير, وأنتظر المطر ليلة السادس من يناير أحب أن أردد أناشيد عيد الميلاد وأشاهد الكلاسيكيات السينمائية عن الكريسماس هذا هو العالم الذي شببت في ظله والذي كانت طنط وداد أحد أعمدته حتي سرق منا عيد الميلاد.أحلم بقطيع من الحملان المتناثرة غاب راعيها, فتذأبت أو أكلتها الذئاب. مصر كما أعرفها بلد معافاة من الفتن ولكن من الذي كسر نفس المصريين ويحاول كسر إرادتهم؟! من الذي يخترق الصف المصري الصامد؟ من الذي سرق عيد الميلاد؟ من الذي أسال الدماء المصرية لتلطخ واجهة الكنيسة والمسجد؟ من الذي حرق قطار الصعيد وأسقط الطائرة وأغرق العبارة؟. والآن أطالبكم جميعا: أعيدوا لي بلدي كما كان, كما أعرفه.. كما تعرفه طنط وداد.