لمن تطلب الدنيا اذا لم ترد بها سرور محب أو إساءة مجرم؟! سؤال عميق علي بساطته, فلا يوجد مخلوق لم يطلب الدنيا بكل مباهجها وزخرفها, ولكن غالبا ما يصاحب هذا الطلب تساؤل عن سبب هذا اللهاث وراء الدنيا, وليس هناك أبلغ أو أرشد من سعادة( الحبايب) ودفع الضر عنهم بمحاربة المجرمين, ولكن يبقي السؤال الأهم من هم المحبون؟ ومن هم المجرمون؟ فهناك من يعتبر الأحبة هم أفراد عائلته الصغيرة, ممن يقدمون له ما يحتاجه ماديا ومعنويا, وهناك من يوسع دائرة محبيه, لتشمل عائلته, وقريته, ومدينته, ووطنه.. وعالمه, وهؤلاء من يطلق عليهم أولو العزم أصحاب العقول النيرة والقلوب الرحيمة والنفوس العزيزة, فيرون أن الحق والخير والجمال من حق كل إنسان, فكل إنسان هو أب وابن وأخ, وله وعليه حقوق الأبوة والبنوة والأخوة... فكل المحبين أحبائي وإن لم أعرفهم, ولكني أعرف قيمة المحبة! وبالمثل هناك من يعتبر المجرم من يهدده أو يعتدي علي أرضه وعرضه وماله الشخصي, وهناك من يعتبر المجرم, هو كل من يهدد أو يعتدي علي الإنسانية في كل مكان, وبالتالي فهو عدوه, فإن لم يمسه الضر بعد, فقد مسه الألم, ألم يعذب الروح العليا للإنسان, التي تهفو لكل قيمة عليا, تمثل له الوجود الإلهي علي الأرض. أما السؤال الثاني الذي قام عليه الأول, فهو: كيف تطلب الدنيا؟ وهو السؤال الصعب لأنه يشكل القاعدة النفسية والأخلاقية لكل شخص, يقوم عليها سلوكه, وهو يختلف من شخص لآخر, وإن جمعتهم أرضية واحدة في العقائد والتعليم والعادات والتقاليد, وهي أيضا تختلف عند الشخص نفسه من فترة لأخري, فالكائن الحي معرض للتغير للأفضل, أو أيضا للأسوأ, فالشخص واحد, والشخصية متعددة حسب قدرة كل منا علي الاستيعاب والتحول وأحيانا التحور! ومن عاداتي منذ الطفولة أن تتحول المناسبات الرمزية كالأعياد الدينية أو الأعياد الشخصية وغيرها إلي أعياد من نوع خاص, بتحويلها الي مناسبات لتعديل مسار الحياة, ففي كل مناسبة تتشكل نقطة تحول جديدة, وتوضع برامج وخطط عظيمة, غالبا ما تنتهي بشرف المحاولة فقط, لتبدأ محاولة جديدة في مناسبة جديدة, يتم فيها الحساب والتعديل والتخطيط بالتفكير الإيجابي, لتطوير التجربة الحياتية, والتغلب علي الشدائد والسلبيات, وتحديد أهداف جديدة, واستدعاء الطاقة الداخلية للوصول إليها علي أمل أن تحقق حياة أرقي وأعلي, ودائما ما تكون ليلة رأس السنة الميلادية وما يصاحبها من اهتمام عام وواسع يعطي لها زخما خاصا كنقطة تحول, وبداية لشيء ما وتحديد لهدف ما, وحساب عسير علي تقصير أو خطأ ما, وكلما تقدم السن كانت المهمة أشد عسرا, برغم توافر الخبرة الإنسانية التي مضت, ولكنها لا تعادل المهمة التي أتت, وتحتاج وعيا جديدا يعين علي تحقيقها, ودائما ما كان البحث عن هذا الوعي في العقل وحده, الذي لا يخيب أبدا, فإن لم ينفع لقصور فيه, فإنه لم يضر, إلا أنني في هذه المناسبة سأحاول البحث عن وعي خلاق, والعقل يقول لي إن قوة الروح أقوي وأعلي من العقل للوصول الي الكمال المستحيل! وتقوية الروح لا تأتي إلا بالقرب من خالقها وتاريخنا العربي الإسلامي به ذخائر من الطرق الروحية التي تقرب العبد لربه وتقوي روحه لتحمل مصاعب الدنيا وليس هناك أشد من فراق الأحبة بالموت والصدفة وحدها أرشدتني الي كتيب يحوي أورادا للراحل الشيخ( إبراهيم الدسوقي) رضي الله عنه وكان فيها أشد العزاء لي عند فراق الأب والأم والأخت, فكانت سبيلا للتقرب الي الله بالله, والتماس المدد والعون من الحي القيوم لنفوسنا المتعبة في الحياة الدنيا, وزال عني العجب من حرص المستشرقون والمثقفون الأجانب علي التماس البهجة في أماكن قديمة ومخطوطات مهجورة تخصنا, ولا نعطيها ما تستحق من احترام, ولا نستفيد من القوي الكامنة فيها, حيث يتجلي العقل الإلهي, لتحفظ مثل هذه الأشياء إثرا منه دائما لايزول, ينكشف لمن يبحث عنه فوق الأنقاض. وفي الشهر الحالي احتفلت الطريقة المولوية في قونية بتركيا بذكري مؤسسها جلال الدين الرومي ال(737) الذي ترك تراثا غنيا بالدلالات والرموز والروحية, ليس فقط من أشعار وأوراد وأذكار, ولكن أيضا تراثا حركيا وموسيقيا, يكفينا أن هذا التراث الفني الزاخر أمدنا بفنانين غير قابلين للتكرار هما( زكريا أحمد) و(كامل الخلعي) اللذان تربيا في تكية المولوية, يتعلمون الموسيقي والشعر ورقة الأحاسيس, ورقي المعاني والدلالات, فكل حركة في هذه الطريقة المدهشة تعطي رمزا, فالذاكر يرتدي عمامة طويلة ترمز لشاهد القبر, وعباءة فضفاضة سوداء ترمز للقبر, وملابس بيضاء طويلة تمثل الكفن, ويقوم الذاكرون بالدوران حول مركز الدائرة لمدة طويلة, حتي يشعرون بالصفاء ويتخلصون من المشاعر النفسية الكريهة وينفضون عن أنفسهم أوزار العالم المادي, وينزعون الي الوجود الإلهي الصافي, ويصاحب الدائرون عزف الناي الحزين, الذي يعبر عن عذاب الإنسان علي الأرض, وتوقه الي أصله السماوي الأزلي, ويرددون أشعار( الرومي) الزاهدة علي شكل موشح تبادلي بين الشيخ ومريديه, ومن أشهر ما يرددون: يامن يراني في علاه ولا أراه.. يامن يجير المستجير إذا دعاه. للطرق الصوفية الفضل في الحفاظ علي الإسلام, وبيضة الإيمان العليا, بالتزكية والتربية والأذكار, وروادها يعتبرون الصوفية هي التطبيق العملي للدين الإسلامي, بسلوك التعبد والزهد في متاع الدنيا الزائل, الذي لا يضاهي لحظة كشف يعيشها المتصوف في رحاب الله, بالاقبال علي الله بالعبودية والقلب والهمة والزهد, حيث قمة الحرية والرفعة والترقي, وهذا لا يتحقق إلا بالتربية للنفس, والتطهير للقلب, اعتمادا علي القرآن الكريم, والسنة المطهرة, واجتهاد العلماء فيما لم يرد فيه نص, وبذلك تحولت الصوفية من عبادة فردية الي علم صوفي, يقوم علي الأخلاق وعلم التزكية, وأعتقد أن شعوبنا المرهقة في أشد الحاجة الي هذا العلم النادر, ليجدد طاقتها الكامنة, ويستنهض قواها الخائرة, وينفض عنها الخزعبلات التي دست علي الدين, إما بالخرافة والدجل الذي أقحم علي الصوفية, أو بالجمود والتخلف وقمع الاجتهاد, من محدودي العلم بالدين الذين لا يرون فيه إلا الحدود وملابس النساء! برغم ذلك لا ينكر الصوفيون أنفسهم, ما دخل علي التصوف من دجل وشعوذة, اختلطت بهم وبرغم رسوخ علمهم القائم والمضبوط بالقرآن والسنة, فالصوفية ألنقية قد أخرجت أهم رموز المقاومة ممن رفعوا راية الإسلام كدين إنساني عالمي عادل يعدل بين الناس كلها, علي رأسهم صلاح الدين الأيوبي, فباسم التصوف جمع جيشا من المؤمنين الصالحين الذين حرروا( القدس), والعز بن عبدالسلام سلطان العلماء, ومحمد الفاتح, وعمر المختار, وعزالدين القسام.. أعظم ما في الصوفية التحامها بالجماهير والفقراء وبابها يتسع لكل المراتب يتعلمون فيها مجاهدة النفس, ليس باستئصال صفاتها الطبيعية التي خلقها الله( قل من حرم زينة الله) صدق الله العظيم, ولكنهم يهذبون النفوس, ويحررونها من سجن الهوي, وتصعدها من السيئ الي الحسن, وتسييرها في مراد الله حيث الخير للجميع, فما أحوجنا لمن يقوم بهذا الدور القيم مع تراجع التمسك بجوهر الإيمان, وتخريب التعليم, وعبادة المال, واحتقار القيم التقليدية, وزرع قيم بربرية, لا تخدم إلا القلة, فساد الإحباط والتهميش والاغتراب. ويبدو أن ليلة رأس السنة هذا العام ستقضي في الاطلاع علي الطرق الصوفية العديدة القديمة والجديدة, وهي بحور بلا شطآن.. فمن الواضح الجلي أنها ستكون كما قال شيخنا العزيز( محمد عبدالمطلب).. يا ليلة بيضة! ولكني سأستعين بزوجي الحبيب الذي يضبط دائما مرددا: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا.. وبت أشكو الي مولاي ما أجد, وقلت يا أملي في كل نائبة.. ومن عليه لكشف الضر أعتمد المزيد من مقالات وفاء محمود